أمسك رئيس الوزراء الإسرائيلى، نتنياهو بالوثيقة الجديدة لحركة حماس، وأشار إليها بإصبعه، ثم فركها بيديه، ورفع سلة المهملات وألقاها فيها، كان نتنياهو يجلس خلف مكتبه وهو يؤدى هذا الدور التمثيلى، وكانت الكاميرات جاهزة للتصوير، كى يشاهده هؤلاء الذين يمسكون القرار السياسى فى منطقتنا العربية والعواصم العالمية المؤثرة.
المشهد لا يعبر فقط عن الأوزان الحقيقية لأطراف الصراع العربى الإسرائيلى، بما يعكس قدرة كل طرف على فرض كلمته، وإنما يقودنا بطريقة مباشرة إلى ما تريده إسرائيل، كما يقودنا بطريقة غير مباشرة ما إلى ما يتم عمله حاليًا فى الغرف المغلقة للمنطقة، وفى القلب منها القضية الفلسطينية، باعتبارها تاريخيًا «أم القضايا العربية».
تريد إسرائيل من أى وثيقة عربية أن لا يأتى ذكر لفلسطين من بعيد أو قريب، ولأن هذا هو الأصل عندها، فإنها لا يمكن أن تقبل حديثًا عن الحقوق التاريخية لفلسطين، وأرضها المحتلة وشعبها المشرد بلاجئيه فى الخارج، واحتلاله فى الداخل، ولا تقبل أى مطالبات فلسطينية بالقدس.
خاضت إسرائيل معركتها من أجل صرف الأنظار عربيًا عن «فلسطين التاريخية»، ونجحت «رسميًا» فى ذلك باتفاقيات السلام التى عقدتها منذ كامب ديفيد مع مصر عام 1979، ثم «وادى عربة» مع الأدرن، ثم اتفاق أوسلو عام 1993، فاتفاق «غزة أريحا أولا» عام 1994 الذى تم ترويجه على أساس أن هناك ثانيًا وثالثًا ورابعًا، ومضى 20 عامًا دون أن يكون هناك استقلال حقيقى لـ«أولًا» فنسينا «ثانيا» و«ثالثا»، وخلال هذه الرحلة فتحت عواصم عربية أبوابها سرًا وعلنًا لإسرائيل، وبعض هذه العواصم أصبح فيها سفراء وبعثات دبلوماسية إسرائيلية فى مسار لم يحلم به آباء الدولة العبرية وقت الإعلان عن تأسيسها ليلة 14 مايو 1948.
كان هذا بمثابة الضرب بعصا غليظة من إسرائيل والأنظمة العربية على الذاكرة العربية كى يتم نسيان «فلسطين التاريخية»، ثم جاء الدور على «فلسطين 1967» حيث تخوض إسرائيل معركتها الحالية من أجل تصفيتها هى الأخرى.
وفى ضوء هذا يمكن فهم وتحليل تصرف نتنياهو مع وثيقة حماس، فبالرغم من أن الوثيقة تؤكد التراجع عن التمسك بأرض فلسطين التاريخية ، وهى الأراضى التى تم احتلالها عام 1948، والقبول بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967، فإن هذا لم يعجب نتنياهو الذى لا يرى أن تخلى «الحركة» عن أهم ثوابتها هو فى الحقيقة تنازلًا تجنيه دولته الاستعمارية التى شردت شعبًا بطرده من أرضه، والسبب فى اعتقاده هذا هو، أن فى جعبته تنازلات أخرى لابد أن تتم، وهنا يأتى الكلام مباشرة عما يتم طبخه حاليًا لتصفية القضية نهائيًا تحت مسمى التوصل إلى حل نهائى لها، ويساعد على ذلك الحالة العربية الراهنة التى لم تشهد من قبل ضعفًا وهوانًا ومذلة كما هو حاصل الآن.
فى هذه الطبخة اعتقد أنه لن يكون هناك كلام عن حق العودة للاجئين، ولن يكون هناك حقوق فلسطينية خالصة بالنسبة للقدس، ولن يكون هناك أرض الضفة الغربية التاريخية، وفى ضوء ذلك يتصرف نتنياهو بتمزيقه للوثيقة بلسان حال يقول: «إذا كنا قد نجحنا فى صرف أنظار الحكومات العربية عن «فلسطين التاريخية»، وننجح الآن فى إنهاء قصة «فلسطين 1967»، ويحدث هذا مع زحف الحكومات العربية إلينا، فلماذا نقبل بوثيقة تتحدث عن «فلسطين 1967» أو حتى تذكرنا بها؟».