علاقتى بالأرقام ضعيفة، خاصة إذا ارتبطت بالموازنة العامة للدولة، لذلك لم أحاول أن أتحدث عنها تجنباً لوقوعى فى أخطاء قد تصل إلى درجة الكارثية، لكن استوقفنى تصريح لوزير المالية الدكتور عمرو الجارحى، خلال لقائه الخميس الماضى، مع المذيعة المتألقة والقديرة رشا نبيل، قال فيه إن نسبة النمو الـ%4 التى شهدناها فى الفترة السابقة تعود إلى المشروعات الكبيرة التى أنشئت خلال العامين الماضيين، حيث أوجدت فرص عمل كثيرة، ولم تكن عبئًا على الموازنة العامة للدولة.
وفى شرح لذلك قال الجارحى، إن مشروع قناة السويس الجديدة وكذلك الطرق والكبارى والمدن الجديدة التى تنفذها الدولة حالياً، لا تكلف الموازنة العامة للدولة جنيهاً واحداً، ولا تؤثر عليها، بل إن لها آثار إيجابية فى حركة النمو، ظهرت فى فرص العمل الكثيرة التى وفرتها هذه المشروعات للشباب، فضلاً عن نمو حركة البيع والشراء، كما أن مشروع الطرق والكبارى هو عنصر مهم فى توفير وسائل النقل المطلوبة للمشروعات الاستثمارية، فضلاً عن أن هذه المشروعات بعثت برسالة إيجابية عن المناخ الاستثمارى فى مصر للخارج.
ما قاله وزير المالية هو خير رد على من قالوا وروجوا كذباً أن المشروعات القومية الكبرى هى التى أثرت على ميزانية الدولة، رغم إدراكهم للحقائق التى قالها الوزير، مؤخراً، فمنذ أن أطلقت الدولة عجلة مشروعات التنمية وهى تعلن أنها لن تكلف الموازنة شيئاً، لأن هناك مصادر أخرى للإنفاق على هذه المشروعات تم تدبيرها خارج الموازنة، منها الشهادات التى تم طرحها للمصريين وجمعت أكثر من 68 مليارا فى أقل من أسبوع لتمويل مشروع قناة السويس الجديدة، بالإضافة إلى طرح أراضى المدن الجديدة للبيع، وغيرها من مصادر التمويل التى تم تدبيرها لهذا الشأن.
وطالما أن الحقائق موجودة وواضحة أمام الجميع، فلماذا نلتف حولها ونبحث عن الأكاذيب والشائعات أيضاً، إلا إذا كانت النية المبيتة سيئة، وتبحث دوما عن إثارة الفتن، خاصة قبل أن يناقش البرلمان الموازنة الجديدة، التى من المقرر أن تبدأ لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب اليوم الاثنين سلسلة اجتماعات لمناقشتها، بحضور وزيرى المالية بعدما ألقى الجارحى البيان المالى للموازنة الجديدة أمام الجلسة العامة لمجلس النواب الاثنين الماضى، والذى كشف خلاله أن إجمالى الاستخدامات بلغت «تريليون و488 مليار جنيه»، وهى موزعة على ثلاثة مكونات رئيسية تشمل المصروفات، وتبلغ «تريليون و106 مليارات جنيه» بنسبة %29.4 من الناتج المحلى الإجمالى، وأقساط القروض وتبلغ 265.4 مليار جنيه، كما أشار وزير المالية إلى زيادة المصروفات بمبلغ 231 مليارا و236 مليون جنيه تمثلت فى «الأجور وتعويضات العاملين وشراء السلع والخدمات والفوائد والدعم والمنح والمزايا الاجتماعية والمصروفات الأخرى والاستثمارات»، مع الإشارة إلى تخصيص الحكومة لقطاعات التعليم ما قبل الجامعى والصحة والتعليم العالى والبحث العلمى 349 مليار جنيه فقط للإنفاق، موزعة 105 مليارات جنيه لقطاع الصحة، ولقطاع التعليم الأساسى «قبل الجامعى» خصصت الموازنة الجديدة 141 مليارا، وخصصت الموازنة الجديدة لقطاع التعليم العالى 68 مليارا، أما فى قطاع البحث العلمى فقد خصصت الموازنة الجديدة 35 مليارا.
نعم الأرقام بكل تأكيد صادمة للجميع، خاصة رقم أقساط القروض والبالغ 265.4 مليار جنيه، وهو ما يمثل ثلث الموازنة تقريباً، وهو رقم فى تزايد مستمر كل عام، وهو ميراث ثقيل تتحمله الإدارة الحالية دون ذنب لها، وهو ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات الإصلاح الاقتصادى الأخيرة التى لم يكن هناك حل سواها، لأن أى تأخير كان يعنى أن الدولة فى طريقها إلى كارثة اقتصادية لا يمكن تدارك تداعياتها مستقبلاً، خاصة أن النزيف فى الخسائر خلال السنوات الست الماضية وصل إلى درجة غير مقبولة وغير معقولة أيضاً.
لكن بجانب هذه الأرقام الصادمة هناك أخرى مبشرة، منها ما قاله أيضاً وزير المالية بأن بند الإيرادات فى الموازنة بدأ يتزايد بنسبة أكبر من نسبة زيادة المصروفات وهو ما يعد تطورا مهما جدا، كما أن مصلحة الضرائب استطاعت أن تستعيد عافيتها، فقد حققت حتى نهاية إبريل الماضى %101 من المستهدف وقد يصلون فى نهاية العام إلى %105، وهذه نسبة كبيرة، وفقاً لما قاله وزير المالية أيضاً، الذى شرح موارد الموازنة والتى تشمل ضرائب الدخل وضريبة القيمة المضافة، والضرائب العقارية والضرائب الأخرى والجمارك، التى تمثل فى مجموعها النسبة الكبرى من حجم الإيرادات، وتمثل %70 منها، بالإضافة إلى الموارد الناتجة عن الهيئات الاقتصادية مثل قناة السويس والبنوك الوطنية والبنك المركزى وشركات قطاع الأعمال العام حينما تحقق أرباحا، أخذاً فى الاعتبار أن هناك أمورا لا تدخل ضمن بند الموارد، مثل تحويلات المصريين فى الخارج التى تسهم فى زيادة حصيلة الدولة من العملة الأجنبية وتصب فى مصلحة عجز الميزان التجارى، وكذلك السياحة فهى تزيد من تدفقات العملة الأجنبية، لكنها لا تشكل مورداً للموازنة العامة للدولة، وإن كانت تساعد فى زيادة النمو الاقتصادى من خلال زيادة وتيرة المشروعات السياحية، وبالتالى زيادة فى فرص العمل المتاحة.
الرقم المهم فى الموازنة أيضاً والذى نحتاج أن نقف أمامه كثيراً متعلق ببند المرتبات، ففى 2010 كان بند الأجور والمرتبات 80 مليار جنيه، ووصل فى 2017 إلى حوالى 240 مليار جنيه، والسبب فى هذه الزيادة الاستجابات غير المبررة من جانب الحكومات التى جاءت بعد 25 يناير 2011 للمظاهرات الفئوية التى طالبت بزيادة الحد الأدنى للأجور وتعيين العاملين المؤقتين، فوصلنا إلى وجود أكثر من 7 ملايين موظف حكومى لا نحتاج لأكثر من مليون منهم فقط، أما الباقون فهم بالتأكيد يمثلون عبئا كبيرا على الموازنة العامة، وهو أمر بحاجة إلى حل جذرى إذا كنا نبحث بالفعل عن آلية ناجحة لوقف نزيف العجز فى الموازنة.
فى المجمل فإننا أمام مجموعة من الحقائق يجب أن ندرسها بعناية شديدة، وتتعلق بالبحث عن حلول لموضوع الديون وفوائدها، وكذلك بند الأجور، لأنه إذا استمر الحال على ما هو عليه لن نصل إلى النتيجة المرجوة وهى أن تكون الموارد مساوية للمصروفات كمرحلة أولى، وبعد ذلك نصل إلى الأمل الذى يراودنا جميعاً وهو أن تكون المصروفات أقل من الموارد حتى تستطيع الموازنة الإنفاق على الاحتياجات الأساسية للمصريين والتى تتعلق أساساً بالتعليم والبحث العلمى وتوفير العلاج المناسب لكل المصريين.