قام المواطنون المصريون بثورة 30 يونيو بقيادة البطل عبدالفتاح السيسى، لإسقاط الحكم الدينى الإخوانى «الثيوقراطى»، ودفعنا حتى الآن آلاف الشهداء والجرحى من القوات المسلحة والشرطة والمدنيين، من أجل الحفاظ على الجماعة الوطنية ووحدة الوطن، بل ويتعرض الرئيس عبدالفتاح السيسى للخطر من أجل الحفاظ على الدولة المدنية، ويتحمل المواطنون المصريون المسيحيون كل أنواع الاضطهاد من الظلاميين، من قتل وتفجيرات وحرق كنائس، من أجل ذلك، ويتجاوزون عن تجاوزات كثيرة، ومن هنا تكمن خطورة ما فعله الشيخ سالم عبدالجليل، أنه لم يزدرِ العقيدة المسيحية فحسب، بل نفى الأساس الدستورى للجماعة الوطنية، الذى ظهر مع دستور 1923، وحتى الدستور الأخير، مرورًا بكل الدساتير المصرية التى أعقبت دستور 1923.
وإذا توقفنا أمام المادة 3 من دستور 1923، سنجد: «المصريون لدى القانون سواء.، وهم متساوون فى التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين»، وصولًا لدستور 2014، مادة 1: «جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شىء منها، نظامها جمهورى ديمقراطى، يقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون»، إلا أن ما ذهب إليه الشيخ سالم إذا تجاوزنا البعد الدينى منه، سنجده ترسيخًا لمبدأ اللامواطنة، وإذا توقفنا أمام ما نشر فى «انفراد» الخميس الماضى تحت عنوان «انفراد يحاكم سالم عبدالجليل»، سنقرأ: اعتذر الشيخ سالم عبدالجليل، مستشار المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وكيل وزارة الأوقاف الأسبق، لملايين الأقباط عن تصريحاته التى كفّرهم فيها، ووصف عقيدتهم بـ«الفاسدة»، لكنه فى الوقت نفسه لم يتراجع عن رأيه، فإن كان اعترف بخيانة اللفظ له، واعتذر عن جرح مشاعر الأقباط، فإنه تمسك برأيه وتفسيره للآية القرآنية «ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه»، التى جاءت تصريحاته التليفزيونية على هامش تفسيرها.
ويؤكد على ذلك الشيخ سالم فى حواره بـ«انفراد» بالقول: «إذا ذهبنا لقسيس وسألناه عن المسلمين، سيقول غير مؤمنين»، ويضيف: «رفضت الاعتذار لأن المسيحى يرانى غير مؤمن، وأنا أراه غير مؤمن»، ويضيف: «الفكر لا يواجه إلا بالفكر عبر منابر إعلامية، وليس عبر القضاء»، أى أن فضيلة الشيخ يلغى مبدأ سيادة القانون، ويؤكد ذلك فى موقع آخر من الحوار: «هناك فرق بين التعايش والحكم الشرعى»، والأخطر أن يصدر هذا عن مسؤول يؤكد: «أنا رجل دولة، ومش جاى من الشارع».
كل ذلك يجسد خطرًا عبّر عنه، وفى اليوم ذاته، الكاتب رامى كامل على صفحة الـ«فيس بوك»: «اجتماعيًا بدأ يظهر من فترة مصطلح إنت كافر بدينى وأنا كافر بدينك، وده معناه إن فى ترسيخ أن فصائل المجتمع وفئاته الدينية تكفّر بعضها، حتى لو ادعى البعض عدم العنف، وبكده المجتمع ككل داخل دائرة التكفير والاختلاف فقط فى مدرسة التكفير، وسطية كسالم عبدالجليل وكثر، أو متطرفة كداعش ومن يأتى بعدها ومن يعتنق أفكارها».
الحقيقة أن الشيخ سالم لم يبدأ هذا المنحى الذى يحولنا من دولة المواطنة والمساواة إلى دولة دينية مملوكية، بل سبقته فى ذلك بسنوات فتاوى الشيخ د. ياسر برهامى، الموثقة على مواقع «السلف»، ولكن الطامة الكبرى أن تخرج مثل تلك التفسيرات من شيخ أزهرى، لتؤكد أن مخطط «استباحة المسيحية» ينتقل من خارج الشرعية إلى داخل الشرعية، ليؤسس ضد المسيحية «فقه الاستباحة»، الأمر الذى يؤسس فكرًا دينيًا مملوكيًا يرسخ فى عقل الأجيال الجديدة تكفيرًا شرعيًا للمواطنين الأقباط.
من هنا تجاوزت القضية ما كان ينادى به الرئيس السيسى من «تجديد الخطاب الدينى»، وأصبحت القضية لمن ننتصر، للدولة المدنية والحياة الدستورية والمواطنة، أم للحكم الدينى والفتاوى الظلامية؟
منذ ثورة 1919 حتى ثورة 30 يونيو 2013، ما يقارب القرن من النضال، لكى ننتقل إلى الحداثة دون التضاد مع الأديان، وإذ بنا نرى ودون مواربة زحفًا ظلاميًا، تارة بالتفجيرات والبارود، وأخرى بالتفسيرات والفتاوى المفخخة، إنها مخطط معلن ويروج له يوميًا من على بعض المنابر، سواء فى الزوايا أو فى زوايا الإعلام والفضائيات، كيف سنواجه ذلك الخطر الداهم؟، وكيف يمكننا إعمال القانون فى وجود مثل هذه الدعاوى التى تهدد السلم الوطنى على أنها جنحة؟، وهل سنصل إلى أجيال للأسف تعتبر المواطنين المصريين المسيحيين «كفارًا»؟، وإلى متى سوف تقوم بعض وسائل الإعلام بالتعامل مع مثل هذه المخاطر بالتلاعب بالألفاظ؟.. للأسف أخشى أن كل ما يقوم به الإرهابيون من قتل وتفجيرات لن يقوى علينا، وعلى وحدتنا الوطنية، مثل تلك التأويلات والتفسيرات والفتاوى التى قد تؤدى إلى ما لا يُحمد عقباه، وكما يقول المثل الشعبى: «كتر الدق يفك اللحام».
نعم النسيج الوطنى والسبيكة المصرية فى خطر، وحسنًا فعل سيادة النائب العام بإحالة الأمر لمحكمة الجنح، بتاريخ 26 يونيو المقبل، وكل ما أخشاه أن تتحول هذة المحاكمة دون أن ندرى إلى محاكمة دينية تعمق الشرخ، لذلك ورغم تاريخى المناصر لحرية النشر، أطالب بحظر النشر فى هذه القضية، حرصًا على السلم الاجتماعى، وسلامة الوحدة الوطنية.
نحن أمام لحظة فارقة فى تاريخ الوطن والأمة، نكون دولة مدنية تستند للدستور والقانون وتحترم كل الأديان، أم دولة دينية يحاول فيها بعض مشايخنا الأفاضل العودة بنا إلى ما قبل الحداثة، وشق الجماعة الوطنية، ومع كامل تقديرى للجميع، سواء أصحاب الفضيلة أو أصحاب القداسة.. ارحمونا وارحموا الوطن يرحمكم الله.