يمكننا القول بأن عامل "فرق السرعات" بين الرئيس السيسى ومرؤوسيه أصبح يمثل أزمة حقيقية فى فهم طبيعة ما يجرى فى المحروسة على النحو الصحيح، وهو نفسه العامل الذى كان سبب نجاحه فى الشأن الخارجى الذى ظل طويلا يمثل مشكلة كبرى لدى المحيطين، خاصة أولئك العاملين فى دولاب العمل الحكومى المصري، والذين لا يتوفر لدى كثيرين منهم الحد الأدنى من مستوى فهم الأهداف والإلمام بالمهام..
فغالبا ما تحاط أبسط أمورنا التى تتعلق بالإنجاز بأسلاك شائكة من القوانين الجائرة والبيروقراطية العقيمة، وتلك تحول دون فهم علمى وعملى لطبيعة المشكلات، وإيجاد التكييفات القانونية والحلول السريعة التى ترفع الضجر والظلم من على كاهل المواطن البسيط، حتى يشعر بحجم الإنجاز المصحوب بالتحدى ، تماما كما يرسخ فى عقيدة الرئيس ، ويستقر فى وجدانه الفطرى الذى يربط بين منطق العدل فى جوهره الأسمى مع جوهره الإنسانى الروحانى الذى يدرك صحيح الدين ، والذى لا ينفى أبدا علاقته بالدنيا التى ينبغى أن نعيشها بأريحية تمكننا من الوصول لبر الأمان المنشود فى المستقبل القريب والبعيد .
يبدو لى أن عامل فرق السرعات بين الرئيس ومرؤوسيه ربما كان سببا جوهريا ومباشرا فى صناعة كثير من الأزمات وأسباب عدم شعور المواطن المصرى بالرضا وإدراك فضيلة الصبر على الأوطان ، وهو ما اتضح لنا جليا فى انفعال الرئيس من رئيس "شركة الريف المصري" المسئولة عن مشروع المليون ونصف مليون فدان، والتى قامت بتسليم ١٠٠ ألف فدان للمواطنين لم يزرع منها سوى ٨ آلاف فدان فقط ، وهى ضمن أراضى وضع اليد التى تمثل حالة عبثية بمقدرات أمة فى خطر ، ما أغضب الرجل وجعله يخرج عن شعوره قائلاً : " محدش يقول الأرض دى بتاعتى ، دى بتاعت مصر ، محدش ياخد حاجة مش بتاعته ، وقال قولته الصادمة: "هى مش طابونة".. آخر الشهر حاخد تمام باستعادة الأراضى كلها بالكامل، واللى حيتكلم على المحكمة على طول، اللى مزرعش تتسحب منه الأرض وترجع للمشروع تاني، أنا بصراحة زعلان قوي، حد ياخد أراضى مصر كده، الناس مش لاقية تآكل، والله العظيم ولا فدان واحد".
هى إشارة واضحة على إدراك الرئيس لخطورة تداعيات وضع اليد على الأراضى بطريقة غير قانونية أو إنسانية تبعد عن ميزان العدالة ، لذا قرر السيسى تشكيل لجنة على مستوى مجلس الوزراء لحل مشكلة وضع اليد على أراضى الدولة واستعادتها من المتعدين حتى تستعيد الدولة والمواطنون حقوقهم، أى إنهاء التعدى على أراضى الدولة قبل ٣٠ مايو الجارى بشكل متكامل، وعلى الرغم من أنها تعد المرة الثالثة التى يناشد الرئيس فيها مرؤسيه بتقنين وضع اليد على الأراضي، بالشكل الذى يحقق العدالة الاجتماعية بين كافة فئات الشعب المصري، إلا أننى أرى أن القرارات الحاسمة هذه المرة بتحديد مدة زمنية لاتزيد عن 10 أيام يعد بداية ناجزة لعودة عقارب التنمية وإنفاذ القانون ، لذا أعقبها وبعد يوم واحد فقط - تم خلاله استعادة 450 فدان - باجتماع مهم وعاجل مساء الأربعاء الماضى- فى إطار عامل فرق السرعات - مع رئيس الوزراء ومحلب ووزراء "الداخلية والزراعة والتنمية المحلية" واللواء أحمد جمال الدين، والدكتورة فايزة أبو النجا، ورئيس الأركان، والمحافظين، ومديرى الأمن، حتى لا تصبح مصر طابونة، على حد تعبيره الذى يبدو قاسيا فى دلالاته ومعناه، بعد أن فاض به الكيل.
نحن نعلم جيدا أن أزمة التعدى على الأراضى قضية مزمنة وشائكة، ولقد تشكلت لجنة برئاسة المهندس إبراهيم محلب قبل سنة تقريبا، وقد تفاءلنا خيرا وقتها، خاصة أن الحاسابات التقديرية الأولية تشير إلى أن قيمة أراضى وضع اليد فى مصر حوالى (تريلون جنيه) ، مايعنى أن تحصيل نصفها على الأقل سيدفع عجلة الاقتصاد قدما إلى الأمام، صحيح أن الأحلام سرعان ما تبعثرت أدراج الرياح مع "لجنة محلب" حيث لاتزيد حصيلة 12 شهرا عن 40 ألف فدان تم التصالح فيها مع ( 18,700 مواطن فقط ) ممن تقدموا بطلبات، لكن جاءت الآن ساعة الحسم لاسترداد تلك الثروة التى يعبث بها بعض المواطنين ورجال الأعمال، وهو الأمر الذى يتطلب أولا وقبل كل شيئ : تشريعات سريعة وعاجلة من جانب مجلس النواب، تطالب بتغليظ العقوبة على واضعى اليد، إضافة إلى تكاتف جهود وزارات (الإسكان - الزراعة - الرى - الأوقاف – التنمية المحلية) إلى جانب هيئة المجتمعات المجتمعات العمرانية والمحافظين ومديرى الأمن، لأنهم معنيون جميعا بحصر أراضى وضع اليد فى إطار تنفيذ المهمة قبل 30 مايو الجارى والحصول على أكبر قدر من حصيلة مجمل ( تريليون جنيه ) وهى من شأنها أن تحدث إنفراجة كبرى فى حياة البسطاء من هذا الوطن.
نحن بحاجة ماسة إلى هذه الحصيلة التى يمكن أن تضاف إلى 300 مليون دولار من بيع الأراضى للعاملين بالخارج، حتى يمكن أن نعول عليها فى وقت ليس لدى مصر غيرها الآن من موارد مالية للصرف على الخدمات، والتى تؤدى بالضرورة إلى رفع المعاناة عن الناس بخفض الأسعار - هذا هو التحدى الحقيقى أمام السيسى الآن - خاصة فى ظل القرارات القاسية المتوقعة فى يوليو القادم برفع أسعار الكهرباء ومواد الطاقة، وأتمنى على الإعلام الغارق فى براثن الأحداث المصطنعة، وتصدير الأزمات اليومية الطارئة، أن ينتبه لدوره الأساسى فى التوعية بهذه القضية، ودعمه الرئيس فى حال الصدام المحتمل مع بعض رجال الأعمال، بدلا من الانشغال بقضايا صغيرة، وغض الطرف دوما عن إنجازات الرجل المشهودة فى البنية الأساسية، ومكافحة الإرهاب وقضايا المصير والهوية التى تتمزق يوميا على شاشات البغض والكراهية فى ميلها العدوانى نحو بث سموم الكراهية والعنف ليل نهار، والذى لم يتبق أمامه تحدي أكبر من تحدى ارتفاع أسعار السلع بشكل جنونى .
الناس فى بلادى لايدركون - للأسف - حقيقة الأوضاع الصعبة التى نعيشها ، ولا أحد ينتبه إلى تجارب شعوب أخرى حولنا ، مثل الشقيقة سوريا التى يعيش أهلها أصعب ظرف واجهته فى تاريخها الحديث ، ومع ذلك لا أحد يسأل نفسه كيف يدبرون حياتهم فى ظل ظروف الحرب القاسية التى تشنها أكثر من 30 دولة ، وهى تستهدف مقدرات بلد لايشكو أهله ارتفاع الأسعار وتدنى مستوى وصول الخدمات الإنسانية بشكل لافت ، فى الوقت الذى يظهر فرق السرعات بين الرئيس ومرؤسيه، ولعل تحديه لوزارة التضامن برفع المعاشات بنسبة 50% يعكس حسه بالفقراء والبسطاء ليرتفع نصيب المواطن فى برنامج "تكافل وكرامة" من 1.7 مليون إلى ثلاثة ملايين مستفيد فى ظل الظروف الاقتصادية الضاغطة ، وأيضا محاولاته الحثيثة لزيادة الاحتياطى النقدى بالبنك المزكرى إلى 30 مليار تضمن دوران عجلة الاقتصاد بشكل آمن، وجذب الاستثمارت على نحو أفضل يبعث برسائل طمئنة للشعب المصري.
على الإعلام أن ينتبه إلى تلك الحالة العبثية التى برع شاعرنا الراحل الكبير "صلاح عبد الصبور" فى قصيدته الرائعة " الناس فى بلادي" واصفا حالتنا الراهنة قائلا:
الناس فى بلادى جارحون كالصقور
غناؤهم كرجفة الشتاء فى ذؤابة الشجر
وضحكهم يئز كاللهيب فى الحطب
خطاهمو تريد أن تسوخ فى التراب
ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأون
لكنهم بشر
وطيبون حين يملكون قبضتى نقود
ومؤمنون بالقدر
وعند باب قريتى يجلس عمى “مصطفى”
وهو يحب المصطفى
وهو يقضّى ساعة بين الأصيل والمساء
وحوله الرجال واجمون
يحكى لهم حكاية.. تجربة الحياة
حكاية تثير فى النفوس لوعة العدم
وتجعل الرجال ينشجون
ويطرقون
يحدقون فى السكون
فى لجة الرعب العميق، والفراغ، والسكون
"ما غاية الإنسان من أتعابه، ما غاية الحياة؟".
وليكن لنا عبرة وعظة فى رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - ونحن مقبلون على أيام رمضان المباركة وهو يودِّع وطنه، بكلمات تحدث بها القلب وعبرت عن عمق محبته لمكة المكرمة، للوطن الغالى وتعلقه بحلّها، وحرمها، بمائها برملها، بصخورها، بجبالها، بوديانها، مؤكدا أن حب الوطن فطرة، ولأن رسولنا قدوة، ولأن هذا الوطن ليس كبقية الأوطان، ليس غريباً أن نحبه، وليس غريباً أن نموت فى سبيله، ومن أجله، وليس غريباً أن ندافع عنه بأرواحنا ودمائنا وأولادنا وبكل ما نملك، ويبقى هذا الحب الفطرى أساسه البناء وقوة التماسك، ووحدة الشعب والقيادة فى السراء والضراء، حبٌ لا بالمشاعر والأحاسيس ولكن بالنوايا الحسنة المخلصة للوطن، تترجمها أعمالنا الخالصة من شوائب الفساد وحب الذات.
علينا أن نعى جميعا خطور هذه المرحلة من تاريخ مصر الحديث بتفعيل جهات العمل والإنتاج للخروج من عنق الزجاجة، ودعونا نردد مع الراحل العظيم فؤاد حداد قوله:
حبوا الوطن
عايز أهادى ولادى بغنوة
أجمل غنوه : حبوا الوطن
حبوا الوطن فى الغيط أبو الفدادين
و فى حصة العربى و درس الدين
حبوا الوطن
حبوا الوطن فى الجبهة و الميدان
يوم الجهاد الكل مجتهدين
حبوا الوطن
و تعملوا من قبل ما تقولوا
حبوا الوطن بالحق و اشقوا له
لولا العرق ما كنش نور الجبين
حبوا الوطن
حبوا الوطن فى الحى فى الشارع
من نور لنور و الجى و الطالع
نادوا الحضور فى جمعة الملايين.