كانت الحدود المصرية السودانية مستقرة، ومعتمدة على اتفاقية 1988 الموقعة بين مصر وبريطانيا، باعتبارهما أصحاب الحكم الثنائى على السودان، إلى أن بدأت الأزمة فى 1958 عندما أعلنت الحكومة السودانية عن ترسيم الدوائر الانتخابية للبرلمان السودانى التى كانت ستجرى فى 27 فبراير 1958، وشمل هذا التقسيم مثلث حلايب وشلاتين، فضلًا عن لسان حلفا، حيث أدخلوهم فى تحديد الدوائر الانتخابية السودانية.
الحكومة المصرية اعتبرت أن هذا التقسيم مخالف لاتفاقية 1899 فأرسلت مذكرة للحكومة السودانية فى أول فبراير 1958 تلفت نظرها لذلك، ولم ترد الحكومة السودانية على هذه المذكرة، فقدمت مصر مذكرة أخرى فى 13 فبراير لاستعجال الرد، كما أوضحت أن ظروف الاستفتاء المصرى على قيام الوحدة المصرية السورية وانتخاب رئيس الجمهورية المحدد له 21 فبراير 1958 تقتضى إنهاء هذه المسألة بسرعة حتى يتمكن المواطنون من الإدلاء بأصواتهم، وللمرة الثانية لم ترد الحكومة السودانية، مما دفع القاهرة للتقدم بمذكرة ثالثة فى 16 فبراير تحيط فيها حكومة السودان علمًا بأنها سترسل لجانًا للاستفتاء إلى هذه المناطق والذى سيجرى فى 21 فبراير، ومعها نقطة بوليس حدود.
وبينما كانت القاهرة تبحث عن البدائل التى تحاول من خلالها تجنب أى صدام مع الأشقاء فى السودان، كانت الخرطوم تسير عكس الاتجاه، خاصة أنه كان يرأس حكومة السودان آنذاك عبدالله خليل، سكرتير عام حزب الأمة، المعادى لمصر، فوجد ضالته المنشودة بتحقيق مكسب سياسى فى الانتخابات السودانية فى مواجهة الحزب الوطنى الاتحادى، فصعد مشكلة حلايب وشلاتين قبل الانتخابات بأيام قليلة، حيث أذاع مجلس الوزراء السودانى بيانًا، تحت عنوان «تدخل الحكومة المصرية فى الحدود السودانية»، وأعلنت الحكومة السودانية فى بيانها أنها ستدافع عن أراضيها، ثم بدأت الأزمة تأخذ بعدًا آخر، وهو التدويل، فلجأت الخرطوم إلى مجلس الأمن وقدمت مذكرة للأمم المتحدة، واستجاب مجلس الأمن لطلب الخرطوم، وعقد اجتماع طارئ فى 21 فبراير 1958 لمناقشة الطلب السودانى، وفى المقابل رفضت القاهرة الانجراف خلف السودان التى اختارت الاستفزاز أسلوبًا للتعامل مع مصر، وقرر جمال عبدالناصر، وقتها تهدئة الوضع، وبالفعل منذ أن عقد الاجتماع الطارئ لمجلس الأمن فى 21 فبراير تجمد الأمر، ولم يتحرك ثانية إلا فى 1992.
وبعد أكثر من 34 عامًا من الهدوء عادت القضية مرة أخرى للواجهة، وتحديدًا فى 1992، بعدما وقعت حكومة السودان مذكرة تفاهم مع شركة كندية بشأن التنقيب على البترول فى أغسطس 1991، وتم توقيع عقود التنقيب فى 17 ديسمبر 1991، وذلك ضمن امتياز للشركة الكندية للتنقيب على البترول فى منطقة تمتد من جنوب خط عرض 22 شمالًا لتضم منطقة امتياز مثلث حلايب بالكامل شمال خط عرض 22، وعلى ضوء ذلك كلفت وزارة الخارجية المصرية، السفير المصرى بالعاصمة الكندية، أوتاوا، بالتواصل مع الشركة الكندية.
وفى الأسبوع الأول من يناير 1992 اتصل السفير بالشركة الكندية فى فانكوفر، وأخطرها بأن الاتفاقية الموقعة بينها وبين الحكومة السودانية تمتد خارج الأراضى السودانية، وفى جزء من الأراضى يخضع للسيادة المصرية، كما قدم احتجاجًا رسميًا للشركة على توقيع الاتفاق فى منطقة لم تسوء أوضاعها القانونية بعد، وكان الاحتجاج مصحوبًا بطلب مصرى بإلزام الشركة الكندية بسحب آلاتها ومعداتها من المنطقة، وقدمت للشركة وثائق وخرائط تثبت حق مصر فى منطقة حلايب.
وفى القاهرة والخرطوم جرت اتصالات مصرية سودانية عبر وزارتى البترول فى البلدين، والسفارة المصرية فى الخرطوم والسفارة السودانية فى القاهرة حول المشكلة، وقدمت مصر مذكرة احتجاج رسمية للحكومة السودانية حول قيامها بمنح الشركة الكندية امتياز التنقيب عن البترول فى منطقة حلايب، لكن الخرطوم لم ترد على الاحتجاج المصرى بدبلوماسية أو بالطرق المعتادة، لكنها قررت البدء فى حرب التصريحات من جانب مسؤوليها ضد مصر فى الإعلام، واستمر الهجوم الإعلامى السودانى على مصر، إلى أن زار القاهرة اللواء الزبير محمد صالح، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ونائب رئيس الوزراء، ووزير الداخلية السودانى تلبية لدعوة رسمية وجهت له من الجانب المصرى، وتم الاتفاق على تشكيل لجنتين مشتركتين بين البلدين، الأولى على المستوى الوزارى للسياسة والإعلام وتضم الوزراء المعنيين فى البلدين لبحث التنسيق فى الشؤون السياسية والإعلامية والأمنية، والثانية مؤقتة لبحث الحدود المشتركة بين البلدين وتسويتها وكان يرأس هذه اللجنة من مصر الدكتور أسامة الباز، ومن السودان محمد عثمان ياسين وكيل أول وزارة الخارجية السودانية.
وفى 16 مارس 1992 عقدت اللجنة أول اجتماع لها فى الخرطوم وتأجل اجتماعها الثانى الذى كان مقررًا عقده فى القاهرة فى إبريل، وفشلت اللجنة فى عقد اجتماعها الثانى، ونشبت أزمة سياسية بين البلدين، ولم تستأنف اللجنة اجتماعها إلا فى 27 أكتوبر 1992 بالقاهرة، وصدرت تصريحات على اتفاق اللجنة على الحل الودى لقضايا الحدود، لكن السودان كعادتها قررت الخروج عن إطار التفاوض والحوار، ولجأت إلى التدويل مرة أخرى، حيث قدمت شكوى إلى مجلس الأمن فى 27 ديسمبر 1992.
وقامت مصر بالرد على المذكرة التى رفعتها حكومة الخرطوم فى 3 يناير 1993، واستمرت الأزمة على نفس المنوال حتى نهاية 1993، وأرسلت حكومة الخرطوم العديد من المذكرات إلى مجلس الأمن، وشهدت العلاقات بين البلدين الكثير من التوتر كان من بينها إغلاق قنصليتى السودان بالإسكندرية وأسوان، وقنصليتى مصر بالأبيض وبور سودان فى 22 يونيو 1993، وزادت العلاقات توترًا بعد محاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى أديس أبابا فى يونيو 1995، والمتهم بالوقوف خلفها النظام السودانى.
وللحديث بقية