«قلتُ فليكن الحب فى الأرض، لكنه لم يكن/ أصبح الحب ملكاً لمن يملكون الثمن!/ ورأى الربُّ ذلك غير حسنْ».
يأتى الشعراء ويذهبون، وتقال القصائد وتنطفئ، ويبقى أمل دنقل شاهدا على القصيدة العربية مضيفا لها ومحافظا على رونقها وقدرتها على صناعة الجمهور دون التقليل من قيمتها الفنية.
فى 21 مايو 1983 رحل الشاعر الكبير أمل دنقل، مرتاحا من الألم الذى كان يسكن جسده ويتعبه، لكنه وبعد 34 عاما على هذا الرحيل لا يزال حيا كونه شاعر الرفض الأشهر والامتداد الأبرز لتاريخ من الشعرية العربية من وجهة نظر الكثيرين.
«قلت: فليكن العدل فى الأرض/ لكنه لم يكن/ أصبح العدل ملكاً لمن جلسوا فوق عرش الجماجم بالطيلسان- الكفن!/ ورأى الرب ذلك غير حسنْ!» على الشعراء والنقاد والمثقفين أن يتأملوا جيدا تجربة أمل دنقل ويدرسونها ويحاولون البحث عن الأشياء التى فتحت له قنوات تواصل مع الجمهور، وأصبحت قصائده جزءا من زادهم الأدبى، ومؤرخا لجانب مهم من ثقافتهم فى تلك الفترة دون التنازل عن الفن.
«قلت: فليكن العقل فى الأرض، لكنه لم يكن/ سقط العقل فى دورة النفى والسجن/ حتى يجن/ ورأى الرب ذلك غير حسن!».
فى زمن أمل دنقل كانت الحرب على أشدها فى الداخل والخارج، فإسرائيل احتلت الأرض وتبين أننا محض هواء، وأننا غير مستعدين للمواجهة، وأن الأزمة ساكنة فينا بشكل كبير، وأننا مشغولون بإيذاء بعضنا أكثر مما نحن مهتمون بهزيمة عدونا، وكان أمل دنقل موجودا يعرف ذلك مسبقا لذا كتب قصيدته الشهيرة «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة».
«أسأل يا زرقاءْ/ عن فمكِ الياقوتِ عن نبوءة العذراء/ عن ساعدى المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة/ عن صور الأطفال فى الخوذات.. ملقاةً على الصحراء/ عن جارى الذى يَهُمُّ بارتشاف الماء/ فيثقب الرصاصُ رأسَه».
القصائد ذات اللمسة السياسية لم تصنع أمل دنقل، إلا بقدر ما أدخل فيها من فن، فهو لم يقف خطيبا يطالبنا بالاصطفاف والتقدم فى خطوات منتظمة ناحية المعركة، لكنه أدخلنا فى حكايات تاريخية استحضرها من الماضى ومنحها الحياة بشكل مختلف، ولعل قصيدته «مقابلة خاصة مع ابن نوح» والرؤية المختلفة التى عرضها للوطن ومحبيه قادرة على بث الروح فى نفوس مستمعى القصيدة وقرائها.
«هاهم الجبناء يفرون نحو السفينة/ بينما كنت/ كان شباب المدينة/ يلجمون جواد المياه الجموح/ ينقلون المياه على الكتفين/ ويستبقون الزمن/ يبتنون سدود الحجارة/ علهم ينقذون مهاد الصبا والحضارة/ علهم ينقذون ... الوطن!».
أمل دنقل لن يموت أبدا، لأنه اختار القصيدة مسكنا أبديا له، ولأنه لم ينتصر سوى للحقيقة، ولكونه عرف كيف يقيم جسرا مع القارئ و«يأوى إلى جبل لا يموت يسمونه الشعب».