النقاش الذى دار فى ندوة «مثلث حلايب رؤية تنموية متكاملة»، التى عقدها معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة، فى مايو 1997، انتهى إلى أن المبدأ الأساسى الذى كانت ولا تزال تسير عليه مصر هو أنه لا يجب أن تكون الحدود بين مصر والسودان عامل انفصال، لأن الحدود لم تعد الآن من عوامل الانعزال بين الدول، وإنما وظيفتها تحديد الإقليم حتى نعرف الدولة المسؤولة عنه، وهو الأمر الذى عبر عنه بشكل واضح فى هذه الندوة الدكتور مفيد شهاب، أستاذ القانون الدولى، ورئيس جامعة القاهرة وقتها، والذى كان ضمن فريق تفاوضى مع السودان، وضم الفريق بجانبه الدكتور محمد السيد غلاب، والدكتور يونان لبيب رزق، وعددًا من المسؤولين بوزارة الخارجية والأجهزة الأخرى المعنية.
هذا الفريق الذى كان يضم قامات لها تاريخها المهنى والأكاديمى، دخل فى تفاوض مع الخرطوم لعدة سنوات، وكانت مصر قد عملت على توثيق علاقتها بالسودان، لكن للأسف وبتوجيهات ظالمة من الجانب السودانى توقفت المفاوضات بين البلدين فى حينها، ووفقًا لما قاله الدكتور مفيد شهاب وبقية أعضاء اللجنة وقتها، يتحمل مسؤولية هذا التوقف الجانب السودانى، بعدما تعمد أن يأخذ مواقف حادة متعنتة ليعلن بطريقة ضمنية أنه لا يريد استكمال التفاوض، خاصة بعدما نجح الوفد المصرى فى عرض الجوانب التاريخية التى تثبت أحقية مصر فى هذا المثلث بشكل علمى، وأيضًا الجوانب القانونية، والرد على كل الحجج التى كانت تقدم من الجانب السودانى، وحينها توقفت المفاوضات لأن الجانب السودانى شعر بضعف موقفه.
المهم فى هذه الندوة أنها رصدت الادعاءات السودانية حول حلايب وردت عليها بشكل علمى وتاريخى ومنطقى أيضًا، ومنها على سبيل المثال ادعاء الخرطوم أن القرارات الإدارية التى صدرت عن وزير الداخلية المصرى نقلت إدارة المثلث من مصر للسودان، مما تنتقل معه السيادة، وهو فهم قاصر وخاطئ أيضًا، لأن القاعدة الثابتة كما قال الدكتور مفيد شهاب، أنه عندما تحدد الحدود باتفاق دولى لا تتغير أبدًا، حتى لو حدثت حروب بين الدولتين، وهناك نوع واحد من الاتفاقيات الدولية لا تتغير أبدًا إلا برضى الطرفين، وهو معاهدات الحدود، لأن الحدود تتميز بأنها تحدد ويسودها عدة مبادئ هى «مبدأ استقرار الحدود»، و«توثيق الحدود»، و«نهائية الحدود»، حتى تتمتع حدود كل دولة بالاستقرار والديمومية، فهذه هى حدودنا منذ 1899، ورغم أن هناك قرارين صادرين من وزير الداخلية «مصطفى باشا فهمى آنذاك»، بتحديد بعض النقاط ليصبح هناك نوع من الإدارة فى السودان، لوجود بعض القبائل السودانية التى تنتقل إلى شمال مصر، ومن الممكن أن تنتقل وتتعايش فى شمال الحدود المصرية، وأيضًا القبائل المصرية تعبر الحدود السودانية، وهذه عملية تنقل وتسهيلات إدارية لا تنال أبدًا مما نسميه فى القانون بالسيادة، فالسيادة شىء والإدارة شىء آخر، والسيادة شىء، وممارسة السيادة أو عدم ممارستها شىء آخر، فقد يكون هذا الإقليم مصريًا ولكن مصر لا تمارس عليه السيادة لسبب أو لآخر، وهناك مناطق معينة تتركها الدولة تحت إشراف دولى معين، أو منطقة منزوعة السلاح أو تكون منطقة لا تتواجد فيها قواتها إلا بنسب معينة، أو بقواعد معينة، أو لا تقوم فيها بتدريبات عسكرية وإنما تكون فيها شرطة مدنية فقط، أو شرطة عسكرية فتحرر من الدولة بإرادتها أو رغمًا عنها، من أن تباشر بعض مظاهر السيادة وهذا أمر وارد جدًا، ولكن يبقى الإقليم خاضعًا لسياداتها، فإذا كانت مصر قد سمحت لاعتبارات عملية بإعطاء تسهيلات إدارية فى هذا المثلث لقبائل سودانية وبتواجد إدارى فى داخل هذه الأراضى، فلا يعنى هذا أبدًا أن مصر قد تنازلت عن هذا الجزء.
ما يؤكد حديث الدكتور مفيد شهاب أيضًا، أن هذا التنازل إما أن يكون فى اتفاقية دولية تعلن فيها مصر أنها تنازلت عن الإقليم أو قامت من خلال تصرفاتها الصريحة التى يفهم منها أنها تنازلت، لكن مصر لم تتنازل صراحة ولا ضمنًا عن هذا الإقليم، ولا وجود لأى ورقة أو وثيقة رسمية بهذا الشأن.
أمر آخر وهو أن الجانب السودانى يتحدث عن أنه اكتسب السيادة على المنطقة بالتقادم، لكن هذه المسألة غير موجودة فى القانون الدولى، وإنما قد تكون ممكنة فى القانون الخاص، عندما يأتى إنسان ويأخذ أرض إنسان آخر ويعيش فيها لمدة 15 عامًا فهنا يحق له أن يقول أخذتها بوضع اليد، وهذا لا يوجد فى القانون الدولى، لأن الحدود وأرض الدولة جزء من سيادتها، والسيادة لا تنتهى إلا بإرادة الدولة أو بتنازلها الصريح.
الشاهد فى كل ذلك أن الجانب السودانى هو الذى اختلق هذه المشكلة، ويحاول أن يشرعنها رغمًا عن الجميع، رغمًا عن مصر والقانون الدولى والاتفاقيات وكل شىء، دون أن يدرى الحقيقة المهمة وهى أننى من الممكن أن أسمح لك بالتنقل وأسمح لك بالتواجد وأسمح لك بأن تعيش معى وربما أن تباشر مظاهر السيادة الخاصة بى، لكن أن تدعى بأن السيادة الكاملة انتقلت لك فهذا هو الخطأ بحد ذاته غير المقبول من مصر ولا من المجتمع الدولى بشكل كامل، كما أنه ليس مقبولًا أن يدعونا الأخوة فى السودان للذهاب إلى التحكيم الدولى فى هذه القضية، لأن الأمر لا يمثل نزاعًا من الأساس، فالأرض مصرية، والتاريخ والجغرافيا يؤكدان ذلك، كما أن الحكومة السودانية مقتنعة بذلك تمامًا، لكنها ترغب فى استغلال هذا الملف فى كل أزماتها السياسية الداخلية، لتحقيق مكاسب فى الداخل السودانى حتى وإن كان على حساب العلاقة مع مصر.
القضية محسومة منذ البداية لكن الأشقاء فى الخرطوم لا يريدون تصديق ذلك، لأن المنطق عندهم تحكمه اعتبارات سياسية وليست قانونية أو مرتبطة بعلاقات الأشقاء التى يجب أن تقوم على مبدأ الحوار والتكامل وليس البحث عن العداوة.