أعجبتنى كثيرًا الصراحة والوضوح والقوة التى اتسمت بها كلمة الرئيس السيسى فى القمة العربية الإسلامية الأمريكية التاريخية وغير المسبوقة التى عُقدت بالمملكة العربية السعودية، وكذلك كلمة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر التى ألقاها خلال مشاركته فى النسخة الاستثنائية من ملتقى «مغردون» الذى تنظمه مؤسسة «مسك الخيرية» التى يقوم عليها الأمير محمد بن سلمان، ولى ولى العهد السعودى، كما راقنى كثيرًا ذلك التناغم والتكامل الذى بدا جليًّا بين الكلمتين على الرغم من أنه لم ينسَّق بين الرئيس والإمام الأكبر قبل اللقاء، وعلى الرغم من أن إحدى الكلمتين سياسية بامتياز، والأخرى ذات طابع دينى وفكرى كادت تغيب عن هذا اللقاء المهم ولا يسمع العالم منها شيئًا خاصة فى هذه النسخة من هذا الملتقى العالمى الرائد، حيث قرر شيخ الأزهر المشاركة فى هذا اللقاء قبل يوم واحد من انعقاده خاصة بعد الحرص الشديد على مشاركته من قبل المنظمين لهذا الملتقى بعد أن كان قد اعتذر عن عدم المشاركة نظرًا لارتباطه منذ وقت طويل، وقبل أن يدعى للمشاركة فى هذا الملتقى، بسفر إلى العاصمة الألمانية برلين للمشاركة فى احتفالية حركة الإصلاح الدينى فى أوروبا التى تقيمها الكنيسة البروتستانتية بمناسبة مرور 500 عام على تأسيسها، وذلك تلبية لدعوة رسمية من الحكومة الألمانية بعد النجاح الكبير الذى حققته زيارته التاريخية لمقر البرلمان الألمانى «البوندستاج» فى مارس 2016م، وتحاوره المثمر مع قياداته وأعضائه، وتوضيحه كثيرًا من المفاهيم المغلوطة عن الإسلام، ومحاولة اختراقه لجدار الإسلاموفوبيا لدى المجتمعات الغربية، حتى إن شيخ الأزهر بدأ رحلته إلى ألمانيا من الأراضى السعودية مباشرة فور انتهاء أعمال ملتقى «مغردون». ونزولًا على رغبة الأشقاء فى المملكة العربية السعودية وحرصهم المشكور على مشاركته، قرر شيخ الأزهر المشاركة، وأعد خلال ساعات قليلة كلمته القوية والصريحة كعادته فى جميع خطاباته، حيث تجده دائمًا ما يختار ألفاظه بعناية ويسبك عباراته سبكًا واضحًا، مراعيًا الحال والمقام، ناشدًا غاية نبيلة يحاول الوصول إليها بأقصر الطرق وأوضح الأساليب.
والمتأمل فى كلمتى السيد الرئيس وفضيلة الإمام الأكبر يرى تناغمًا وتكاملًا وقراءة عميقة ومتقاربة للواقع، حيث حملت الكلمتان فى طياتهما تشخيصًا دقيقًا للمشكلة التى تقض مضاجع صناع القرار والمهتمين، بل بات يعانى منها العالم بأسره حكومات وشعوبا، وهى مشكلة الإرهاب والتطرف، كما قدمت الكلمتان وصفًا واضحًا وصريحًا لعلاج تلك المشكلة من خلال محاور محددة وأدوات حديثة تواكب ما لدى هؤلاء المجرمين وتتحدث بلغاتهم، وهو ما يفسر فى طياته سر نجاة مصر من مصير كارثى لدول خُطط لها أن تؤول إليه كما خُطط لمصر سواء بسواء، فهوت تلك الدول سريعًا بينما نجت مصر بفضل الله عز وجل ثم بتوفيق قادتها وحكمائها وفهمهم العميق لأبعاد ما حيك لها فيما وراء البحار كما جاء فى كلمة شيخ الأزهر.
لقد أكدت الكلمتان أن المرحلة الدقيقة التى يمر بها العالم شرقًا وغربًا تقتضى الجرأة فى التعاطى مع هذا الداء العضال، وتوحيد الجهود لمواجهة أسبابه، وأهمية الجواب عن أسئلة مشروعة حول سر صمت المجتمع الدولى عن الدول التى ترعى الإرهاب وتدعمه، وتقدم غطاء سياسيًّا للإرهابيين، وتؤوى على أراضيها الملاحقين أمنيًّا فى بلادهم وتوفر ملاذًا آمنًا لهم، وحول مصادر تمويل الإرهابيين بالمال والسلاح والمعلومات وقدراتهم التقنية والبشرية والتخطيطية، والممرات الآمنة التى يمرون من خلالها إلى وجهتهم فى البلاد التى يقصدونها لتدميرها وقتل أبنائها وسبى نسائها، والدول التى توفر الدعم اللوجيستى وأماكن التدريب والمستشفيات عالية التجهيز لعلاج جرحاهم، وتشترى ما يستولون عليه من بترول وآثار. ومن المهم أيضًا كشف المكنون الذى يتحاشى الحديث عنه كثير من الناس، وعوضًا عنه يصدعوننا ليل نهار بذكر أسباب واهية أو على أفضل تقدير هى أحد أسباب انتشار الإرهاب لكنها ليست الأسباب المباشرة والحقيقية لوجوده أصلًا، ومن ذلك حديثهم عن الخلل فى المناهج الدراسية والتقصير فى المواجهة الفكرية، وتكمن الأسباب الحقيقية والعوامل المحورية لهذه الظاهرة الخبيثة، أو على الأقل لتماديها وتمددها شرقًا وغربًا والتباطؤ فى القضاء عليها قضاء نهائيًّا، فيما صدح به فضيلة الإمام الأكبر مدويًا وأسمع القاصى والدانى فى العالم كله، وهو تجارة السلاح وتشغيل مصانع الموت والقرارات الهوجاء التى يتخذها من يسيطرون على توجيه دفة السياسة الدولية ويتحكمون فى مصائر الشعوب ويفرضون عليهم الوصاية ويملون عليهم رغباتهم وأساليب حياتهم دون أدنى تقدير لحق الإنسان فى الحياة وحق الشعوب فى تقرير مصيرها واختيار ما يناسب ثقافاتها وأعرافها من نظم اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية أو حتى سياسية.
من المهم كذلك أن نمتلك الجرأة والشجاعة ونجهر بما علينا كما نتحدث عما لنا، فنعترف فى أسف وحزن بأن بعض بنى جلدتنا ممن يتكلمون بلساننا ويعتنقون ديننا فهموا الدين فهمًا خاطئًا وفسروا نصوصه تفسيرًا يجافى حقيقته السمحة فأظهروه فى صورة الدين المتعطش للدماء وجعلوا تلك المغالطات عقيدة لهم ينطلقون من خلالها ويحاولون إجبار الناس على اعتناقها، وبعضهم الآخر بررت لهم غايتهم وحملتهم المصالح على استغلال الدين لتحقيق مآربهم الخاصة وخدمة توجهاتهم السياسية فأخذوا يجتزئون النصوص من سياقها التاريخى أو الموضوعى لإيهام الناس وخاصة الشباب بأن ما يرتكبونه من جرائم نكراء هو تنفيذ لتوجيهات شريعتنا كذبًا منهم وزورًا وافتراء على الله ورسوله واستغلالًا لعاطفة الشباب تجاه دينهم وتعاليمه التى يجهلونها، كل ذلك من أجل توسيع قواعدهم الشعبية وتقوية قدراتهم التنافسية.
إن ما يحمد لهاتين الكلمتين فى هذه اللقاءات التاريخية، سواء كلمة السيد الرئيس فى القمة العربية الإسلامية الأمريكية أو كلمة فضيلة الإمام الأكبر فى ملتقى «مغردون» العالمى، هو المصارحة والمكاشفة والوعى بمواطن الخلل، والحرص على المواجهة الجدية للمشكلات الناشئة والعالقة، وإدراك الأطماع العالمية والإقليمية التى لاتزال تفكر بعقلية المستعمرين أو عقلية الحالمين باستعادة ماضٍ تليد، ليعلم ويعى الجميع أننا متيقظون لما يحاك لنا وواعون بالمخاطر المحدقة بنا، وجادون فى التعاون مع المؤسسات المعنية فى العالم كله من أجل خير البشرية وإسعادها، وأننا إن سكتنا فسكوتنا إمهال وعدم رغبة فى شق الصف وتوسيع الهوة بين الأمة، وإن تحدثنا فعلى العالم أن يصغى.