قال تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك)
يقول الله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75].
تحمل الآية معانى كثيرة يجب الوقوف عندها، ومنها: أن حبَّ المال أمر مفطور فى النفوس، قال سبحانه: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20]، وقال جل وعلا عن ابن آدم: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، ويقول النبى صلى الله عليه وسلم: قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ: طُولُ الْحَيَاةِ، وَحُبُّ الْمَالِ) فيبين بذلك أن الرجل قد يشيب ويهرم ويظل على حبه للمال.
لكن هذا الحب الشديد للمال مرهون بالأمانة وأدائها، وأداء الأمانة خلق لا علاقة له بالإيمان والكفر إلا شيئاً يسيرًا، فقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (... ما من شىء كان فى الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاةٌ إلى البر والفاجر)، فلو قدر أن كان لأحد من الناس أمانة عندك، وكان فاجرًا أو فاسقا أو كان على غير دينك أو لا يتبع مذهبك وفكرك فإن ذلك كله لا يمنعك من تأدية الأمانة إليه.
ويظهر من الآية قيمة عالية راقية غابت عن كثير من البشر، ألا وهى قيمة الإنصاف والتجرُّد، فبالرغم من أن القرآن كتاب الإسلام الأول، إلا أن ذلك لم يمنعه من الاعتراف بأخلاق غير المسلمين من أهل الكتاب فيقرر الله فى هذه الآية أن بعض أهل الكتاب من لو أمنته فوضعت عنده قنطارًا -والقنطار: الآلاف من الدنانير- ثم طلبتها منه لردها إليك، رغم أنه مخالف فى الملة، وإخبار الله بهذا دلالة على إنصاف الله جل وعلا وأن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة.
فقول الله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] أى: إن وضعت عنده قنطاراً أمانة رده إليك تاماً كما هو رغم أنه كتابى، يهودى وإما نصرانى، فلم تمنعه عقيدته من تأدية الأمانة.