ما قبل الحديث عن أوجه القصور والحقائق التى تكشفت فى أعقاب حرب الخامس من يونيو لابد فى البداية من الإشارة إلى حقيقة عظمى هى الضوء المبهر فى نهاية نفق الهزيمة فالحرب لم تنته بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 242 وتوقف أعمال القتال على كافة جبهات القتال لأن النهاية الحقيقية كانت بعد أيام قليلة من هذا القرار الأممى عندما قامت إسرائيل فى الأول من يوليو بمحاولة للإستيلاء على بور فؤاد فى آخر معارك حرب 1967 ضد القوات المسلحة المصرية.
أحداث معركة الحقيقة المنسية..
فى الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم هاجمت قوة مدرعة إسرائيلية تقدمت من القنطرة شرق في اتجاه الشمال فى اتجاه مدينة بور فؤاد المواجهة لمدينة بورسعيد على الضفة الأخرى من القناة بهدف احتلالها وهى الجزء الوحيد من سيناء الذى لم تحتله إسرائيل أثناء معارك 5 يونيو وما بعدها وكان الغرض من هذه العملية تهديد بورسعيد ووضعها تحت سيطرة نيران الاحتلال الإسرائيلي المباشرة وعندما وصلت القوة الإسرائيلية إلى منطقة رأس العش جنوب بور فؤاد كانت تؤمن المنطقة قوة محدودة من قوات الصاعقة مزودة بالأسلحة الخفيفة فقط بينما كانت القوة الإسرائيلية تتكون من عشر دبابات مدعمة بقوة من المشاة الميكانيكية عبارة عن عربات نصف جنزير ودارت معركة بطولية عندما اصطدمت القوة الإسرائيلية بمقاومة باسلة أنزلت بها خسائر كبيرة في المعدات والأفراد أجبرتها على التراجع جنوبا ويقول المشير محمد عبد الغنى الجمسى فى مذكراته التى توثق لهذه المعركة "تشبثت القوة بمواقعها بصلابة وأمكنها تدمير ثلاث دبابات معادية وعاود العدو الهجوم مرة أخرى ، إلا أنه فشل في اقتحام الموقع بالمواجهة أو الالتفاف من الجنب ، وكانت النتيجة تدمير بعض العربات نصف جنزير بالإضافة لخسائر بشرية واضطرت القوة الإسرائيلية للانسحاب ، وظل قطاع بور فؤاد هو الجزء الوحيد من سيناء الذي ظل تحت السيطرة المصرية حتى نشوب حرب أكتوبر 1973 " .
كانت هذه هى المعركة الأخيرة واقعيا فى حرب يونيو أو حرب الأيام الستة كما اعتادت على تسميتها بعض المراجع العسكرية فى الغرب وهى معركة تحمل من الدلالات أكثر مما كان يمكن أن تتصوره عقول القادة الإسرائيليين الذين لم ينتبهوا لمغزاها فى غمرة الزهو والانتشاء بما حققوه من نصر لأن هذه المعركة التى بدت صغيرة كانت فى حقيقة الأمر كبيرة فى مضامينها وعلامة فارقة دلت بنصوع على أهم نتيجة اختتمت وقائع الخامس من يونيو وهى أن الجندى المصرى لم يصب بلعنة الانهيار المعنوى ولم يفقد ثقته بنفسه وأن هذه الجولة انتهت واقعيا ممهورة بتوقيع على رسالة كاشفة ومدوية محتواها أن نقطة التحول فى مسار الحرب قد بدأت مبكرة للغاية بأكثر مما يتصوره أى مطلع على الشأن العسكرى سواء كان سياسيا محنكا أو خبيرا عسكريا فى الشرق أو الغرب وهذا ما أثبتته الأيام في ما بعد فى حربى الإستنزاف والسادس من اكتوبر .
فماهى الحقائق التى يمكن أن تكون قد قبعت فى بئر النسيان أو تم إدراك وقائعها بأساطير تاهت عنها جوانب الصواب وأصابها الالتباس بنية حسنة أو محاولة الالتفاف مجريات ما تم فعلا من أحداث وهو مايمكن قراءته فى ما يلى :
الحقيقة الأولى :
يظن الكثيرون أن الحرب بدأت فى التاسعة صباحا فى الخامس من يونيو 1967 فى توقيت قصف المطارات المصرية بينما هى بدأت فى حقيقة الأمر من لحظة خروج الطائرات الإسرائيلية من قواعدها فى الساعة الثامنة و14 دقيقة كتوقيت عام لأن هناك توقيتات فى الإقلاع اختلفت من قاعدة لأخرى طبقا للخطة الموضوعة على أساس أن تبدأ عملية ضرب القواعد المصرية جميعها فى توقيت واحد أى فى الثامنة و45 دقيقة وهو التوقيت الذى يكون الضباب قد أنقشع فيه وتتيح زاوية سقوط أشعة الشمس توفر فيه أفضل رؤية وكانت المخابرات الإسرائيلية قد جمعت معلومات مهمة أدت إلى اختيار هذا التوقيت حيث يذهب القادة إلى مكاتبهم فى التاسعة وهو التوقيت الذى يبدأ فيه الطيارون تدريبهم اليومى والقصف قبل التاسعة بربع ساعة سوف يربك القادة الذين لم يصلوا مكاتبهم والطيارين لن يكونوا على مقربة من طائراتهم وبالفعل نجحت هذه الخطة فى تدمير المطارات وتحقيق السيادة الجوية للجيش الإسرائيلى .
الحقيقة الثانية :
لم تستطع الأجهزة المسؤولة عسكريا فى القوات الجوية المصرية والمخابرات الحربية أن تكتشف حقيقة أن إسرائيل زودت طائراتها بخزانات وقود إضافية حتى تتمكن من الوصول إلى القواعد الجوية المصرية الموجودة فى الأعماق البعيدة كى يتم القصف فى نفس التوقيت على جميع المطارات كما أن القصور فى هذه المعلومة أدى إلى ارتكان بعض وحدات الدفاع الجوى إلى الاسترخاء مما أدى إلى مباعتة القوات الإسرائيلية لها والواقع أن المعلومات الدقيقة تساعد دائما على اليقظة والتنبه إلى أخطاء يمكن تجنبها وأثار جانبية يمكن تلافيها.
الحقيقة الثالثة :
على عكس الاعتقاد السائد بأن الضربة الجوية الإسرائيلية للقواعد الجوية المصرية كانت مفاجئة للجميع وهو اعتقاد خاطئ بنسبة 100% يكشف خلل مريع فى كافة مراكز القيادة والسيطرة فقد أستطاع الرادار الموجود فى منطقة عجلون فى الأردن رصد الإقلاع للهجوم عندما رصد الفريق عبد المنعم رياض على شاشات الرادار عشرات القاذفات والمقاتلات الإسرائيلية تتجه غرباً فى اتجاه مصر فأرسل على الفور الأشارة المتفق عليها "عنب عنب عنب" وهى الشفرة المتفق عليها سلفا فى حالة بدء هجوم جوى على مصر لكن بسبب قيام ضابط الاتصالات بتغيير مفتاح الشفرة دون التنسيق مع الفريق رياض ذهب التحذير أدراج الرياح ولو لم يحدث هذا العبث القاتل لتغير مجرى الحرب كاملا والأدهى أنه كانت هناك فرصة أخرى في أن يقوم ضباط الاتصال في مكتب وزير الحربية شمس بدران بإبلاغ الإشارة وهنا يحكى لنا الفريق فوزي لنا القصة المأسوية :
"أمّا المحطة الفرعية في مكتب شمس بدران (وزير الحربية) في كوبري القبة فقد استلمت الإشارة، وتحليلها واضح ولا يمكن أن يحدث فيه سوء فهم. إنه إنذار أكيد ببدء هجوم طيران العدو على أراضي مصر…، إلاّ إن الضابط المناوب في كوبري القبة لم يخطر الوزير لعدم وجوده في مكتبه، وبعد مرور حوالي ٤٠ أو ٤٥ دقيقة من استلام الضابط المناوب للإنذار، وبالصدفة خلال مكالمة تليفونية عابرة مع زميله بالمحطة الرئيسة… أراد أن يذكّره بنفس الإشارة، وما فيها من اسم كودي يدلل على طائرات العدو المغيرة. فقابله “الضابط المناوب على نفس المحطة الرئيسة بالتهكم قائلاً: “عنب إيه وبصل إيه؟! دول فوق دماغنا".
الحقيقة الرابعة:
رصدت أكثر من جهة مراقبة فى الخطوط الأمامية تحركات للقوات الإسرائيلية قامت فيها بالفتح فى تشكيلات قتال وهذا أمر خطير للغاية وتم الإبلاغ عنها ليلة 4/5 لكن الأمر لم يؤخذ على محمل الجد أو أن إشارات التحذير لم تعرض إلا فى صباح اليوم التالى بعد انتهاء الضربة الجوية وفى هذا يقول الفريق صلاح الحديدى ما هو أخطر من هذا فى كتابه " شاهد على حرب ١٩٦٧ " عندما يتطرق إلى حادثة أخرى تكشف انهيار وسائل جمع المعلومات وتحليلها. فيقول إن هجوما بريا وقع في صباح يوم ٥ يونيو قامت به طلائع القوات الإسرائيلية على المحور الأوسط في سيناء وتم فيه احتلالها لموقع متقدم داخل حدودنا كانت تدافع عنه سرية من المشاة في منطقة أم بسيس الأمامية ويستطرد أن هذا الهجوم وقع في الساعة السابعة والنصف من صباح يوم ٥ يونيو، أي قبل الضربة الجوية بساعتين تقريبا ولو كانت واقعة هذا الهجوم وصلت لقيادة الجيش في بير تمادة أو في القيادة العليا في القاهرة لكان من الممكن أن تقوم القوات المصرية بعملية ردع فورية تغير من نتيجة الحرب كما يشير الحديدى إلى أن المعلومات المبكرة عن أنشطة العدو قد وصلت بالفعل ولكن أحدا لم يعرها أي انتباه وينقل الحديدى عن أحد شهود العيان طبقا لروايته أن نقطة المراقبة التابعة له أبلغته ليلة 4/5 يونيو أنها شاهدت نشاطاً وتحركات غير طبيعية للعدو في اتجاه العوجة، وأنه قام بإرسال هذه المعلومات إلى قيادة الجبهة والرئاسة المباشرة في القاهرة وبلغه فيما بعد أن هذه الرسالة تم عرضها على قائد الجبهة في سيناء بعد ظهر يوم ٥ يونيو.
الحقيقة الخامسة :
رغم أن الضربة الجوية فى بداية الحرب والتى مكنت الجيش الإسرائيلى من تحقيق السيادة الجوية الكاملة إلا إنه كان يمكن لو صمدت القيادة العسكرية فى ذلك الوقت فى مصر لوقع المفاجأة أن تدير معركة برية غير متكافئة بطبيعة الحال فى غياب الغطاء الجوى لأن موقف القوات حتى نهاية يوم 5 يونيو كان صلبا من الوجهة الاستراتيجية نتيجة أن القتال كان دائرا على النطاق الأول فقط وكان وضع الدفاع ثابت فى النطاقات الأخرى وبعض الصمود من القيادة العامة كان سيقلل من الخسائر فى جانبين أولهما مساحة الأرض التى استولى عليها الإسرائيليين والجانب الثاني تقليل الخسائر فى الأرواح والمعدات والأسلحة التى زاد فقدانها عن 80% والدليل على ذلك قرار المشير عامر بالانسحاب حيث طلب من الفريق محمد فوزى وضع خطة خلال 20 دقيقة للإنسحاب مما أصاب فوزى بالذهول من هذا الطلب غير الموضوعى فخطة كهذه تحتاج طبقا لمقتضيات العلم العسكرى عدة ساعات واستدعى فوزى على الفور كلا من الفريق أنور القاضى رئيس هيئة العمليات واللواء تهامى مساعد رئيس الهيئة وقاموا بوضع خطوط عامة جدا تنفيذا لطلب المشير وعندما ذهبوا للمشير لعرض المقترح فاجأهم بأنه اتخذ القرار وأبلغه للتشكيلات ومن مهازل الوضع أن قائد الجبهة الفريق مرتجى عرف بالقرار بالصدفة بعد البدء فى تنفيذه وكمثال آخر فإن ما تم من قرارات صدرت للفرقة الرابعة كان مأساة بكل أبعاد الكلمة فعندما صدرت الأوامر للفرقة بالإنسحاب إلى غرب القناة وبعد تنفيذ الانسحاب بنجاح وحافظت على كل سلاحها صدر أمر آخر بالعودة مرة أخرى إلى سيناء من أجل التمسك بخط المضايق والحفاظ عليه لكن بعد أن عادت الفرقة إلى شرق مرة أخرى كان خط المضايق قد سقط فصدرت الأوامر للفرقة بالعودة إلى غرب القناة مرة أخرى لكنها لم تستطع تنفيذ هذا الأمر هذه المرة لأن الجسور على القناة كانت قد نسفت وهكذا وقعت دبابات الفرقة كاملة كما لوكانت تسليم مفتاح للإسرائيليين.
فى هذه الحرب كانت العشوائية سائدة والأخطاء لاحصر لها والارتباك متفشى فى اتخاذ القرارت بعد الضربة الجوية لتنتهى بذلك صفحة كئيبة فى تاريخ العسكرية المصرية وتفتح صفحة أخرى ناصعة ويستقر لمصر جيش عصرى قوى ومنيع .