دورتنا الرمضانية اليوم عن خلق لذوى النفوس الكريمة، ألا وهو الإيثار.
يعتبر الإيثار من محاسن الأخلاق الإسلامية، فهو مرتبة عالية مِن مراتب البذل، ومنزلة عظيمة مِن منازل العطاء، لذا أثنى الله على أصحابه، ومدح المتحلِّين به، وبيَّن أنهم المفلحون فى الدُّنْيا والآخرة.
قال الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
والإيثار هو أن يقدم الإنسان حاجة غيره من الناس على حاجته، برغم احتياجه لما يبذله، فقد يجوع ليشبع غيره، ويعطش ليروى سواه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)
وللإيثَار فوائد عظيمة، وثمار جليلة يجنيها أصحاب هذا الخُلُق العظيم، كدخولهم فيمن أثنى الله عليهم مِن أهل الإيثَار، وجعلهم مِن المفلحين، ومِن أعظم الثِّمار والفوائد أن التَّحلِّى بخُلُق الإيثَار يؤدى إلى محبَّة الله تبارك وتعالى، وفيه اقتداءٌ بسيدنا محمَّد، صلى الله عليه وسلم، كما أنَّ المؤْثر يجنى ثمار إيثاره فى الدُّنْيا قبل الآخرة، وذلك بمحبَّة النَّاس له وثنائهم عليه، ويجنى أيضًا ثمار إيثاره بعد موته، بحسن الأحدوثة وجمال الذِّكر، فيكون بذلك قد أضاف عمرًا إلى عمره.
بالإضافة إلى أنه جالبٌ للبركة فى الطَّعام والمال والممتلكات، ووجود الإيثَار فى المجتمع دليلٌ على وجود حس التَّعاون والتَّكافل والمودَّة، وفقده مِن المجتمع دليلٌ على خلوِّه مِن هذه الركائز المهمَّة فى بناء مجتمعات مؤمنة قويَّة.
وبالإيثَار تحصل الكفاية الاقتصاديَّة والمادِّيَّة فى المجتمع، فطعام الواحد يكفى الاثنين، وطعام الاثنين يكفى الثَّلاثة، والبيت الكبير الذى تستأثر به أسرة واحدة مع سعته يكفى أكثر مِن أسرة ليس لها بيوت تؤويها وهكذا.
فعن أبى هريرة، رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طعام الاثنين كافى الثَّلاثة، وطعام الثَّلاثة كافى الأربعة)، وفى لفظ لمسلم: (طعام الواحد يكفى الاثنين، وطعام الاثنين يكفى الأربعة، وطعام الأربعة يكفى الثَّمانية).
ولقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن جميع الأخلاق أوفر الحظِّ والنَّصيب، فما مِن خُلُقٍ إلَّا وقد تربَّع المصطفى، صلى الله عليه وسلم، على عرشه، وعلا ذروة سَنَامه، ففى خُلُق الإيثَار كان هو سيِّد المؤثرين وقائدهم، بل وصل الحال به صلى الله عليه وسلم أنَّه لم يكن يشبع -لا هو ولا أهل بيته- بسبب إيثاره صلى الله عليه وسلم، قال ابن حجر: (والذى يظهر أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يؤثر بما عنده، فقد ثبت فى الصَّحيحين أنَّه كان -إذا جاءه ما فتح الله عليه مِن خيبر وغيرها مِن تمر وغيره- يدَّخر قوت أهله سنة، ثمَّ يجعل ما بقى عنده عُدَّة فى سبيل الله تعالى، ثمَّ كان مع ذلك -إذا طرأ عليه طارئ أو نزل به ضيف- يشير على أهله بإيثارهم، فربَّما أدَّى ذلك إلى نفاد ما عندهم أو معظمه)
وضرب الصَّحابة أروع أمثلة الإيثَار وأجملها، ومَن يتأمَّل فى قصص إيثارهم يحسب ذلك ضربًا مِن خيال، لولا أنَّه منقولٌ لنا عن طريق الأثبات، وبالأسانيد الصَّحيحة الصَّريحة، فعن أبى هريرة، رضى الله عنه (أنَّ رجلًا أتى النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلَّا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن يضمُّ- أو يضيف- هذا؟ فقال رجل مِن الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمى ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلَّا قوت صبيانى، فقال: هيِّئى طعامك، وأصبحى سراجك، ونوِّمى صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيَّأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوَّمت صبيانها، ثمَّ قامت كأنَّها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنَّهما يأكلان، فباتا طاويين، فلمَّا أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ضحك الله اللَّيلة أو عجب مِن فعالكما، فأنزل الله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
اللهم ارزقنا الإيثار، وحب الخير للناس، وأعذنا من الأثرة والأنانية وحب الذات.