وردت هذه الجملة القرآنية فى سياق الحديث عما قد يقع بين الأزواج من أحوال قد تؤدى إلى الاختلاف والتفرق، وأن الصلح بينهم على أى شىء يرضيانه خير من تفرقهم، غير أنها قاعدة هامة من قواعد بناء المجتمع، وإصلاحه، وتدارك أى سبب لتفككه، يقول سبحانه: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
ويمكن القول: إن جميع الآيات، التى ورد فيها ذكر الإصلاح بين الناس هى من التفسير العملى لهذه القاعدة القرآنية المتينة، ومن المناسبات اللطيفة أن ترد هذه الآية فى سورة النساء، وهى نفس السورة، التى ورد فيها قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].
يقول ابن عطية: مؤكدًا اطراد هذه القاعدة: «وقوله تعالى: {والصلح خير} لفظٌ عام مطلق، يقتضى أن الصلح الحقيقى الذى تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خيرٌ على الإطلاق، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة»..
ومعنى الآية باختصار: أن المرأة إذا خافت المرأة نشوز زوجها أى: تَرّفَعه عنها، وعدمِ رغبتِه فيها وإعراضه عنها، فالأحسن فى هذه الحالة أن يصلحا بينهما صلحا، بأن تسمح وتتنازل المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها: إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن، أو القسم بأن تسقط حقها منه، أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها، فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناح ولا بأس عليهما فيها، لا عليها ولا على الزوج، فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال، وهى خير من الفرقة، ولهذا قال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}».
والصلح جائزٌ فى جميع الأشياء إلا إذا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، فإنه لا يكون صلحًا، وإنما يكون جورًا.
فمتى وفق الإنسان لهذا الخلق الحسن، سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب، بخلاف من لم يجتهد فى إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدى ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر.
ومن تأمل القرآن، وأجال فيه ناظريه، رأى سعة هذه القاعدة من جهة التطبيق، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره من الإصلاح بين الأزواج، فإننا نجد فى القرآن الحث على الإصلاح بين الفئتين المتقاتلتين، ونجده يثنى ثناء ظاهرًا على الساعين فى الإصلاح بين الناس: {لَا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}
بل تأمل فى افتتاح سورة الأنفال فسترى عجبًا، فإن الله تعالى افتتح هذه السورة بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} فلم يأت الجوابُ عن الأنفال مباشرة، بل جاء الأمر بالتقوى وإصلاحِ ذاتِ البين، وطاعةِ الله ورسوله؛ لأن إغفال هذه الأصول الكبار سببٌ عظيم فى شر عريض، ولعل من أسرار إرجاء الجواب عن هذا التساؤل: لبيان أن التقاتل على الدنيا ومنها الأنفال «وهى الغنائم» سببٌ فى فسادِ ذات البين، ولهذا جاء الجواب عن سؤال الأنفال بعد أربعين آية من هذا السؤال.
ولأهمية هذا الموضوع أعنى الإصلاح: أجازت الشريعة أخذ الزكاة لمن غرم بسبب الإصلاح بين الناس. وحتى نفيد من هذه القاعدة القرآنية أن نسعى لتوسيع مفهومها فى حياتنا العملية، وأصدق شاهد على ذلك سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، الذى طبق هذه القاعدة فى حياته، وهل كانت حياته إلا صلاحًا وإصلاحا؟
فهنيئًا لمن جعله الله من خيار الناس، الساعين فى الإصلاح بينهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.