بعد أن فتح مجلس النواب باب مناقشة ملف «تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية»، انبرت كتائب نشر الشك واليأس والإحباط، لتبنى حملة تشكيك وتخوين كبرى، كعادتهم، وتوظيفها للإجهاز على النظام الحالى، دون النظر إلى الحقائق التى تصرخ بها الوثائق والمستندات، عما ستؤول إليه جزيرتا تيران وصنافير بعد تعيين الحدود، هل ستؤول للسعودية أم لمصر؟
عقدوا المؤتمرات، التى نقلتها قنوات الإخوان على الهواء مباشرة، وهددوا وتوعدوا بالنزول للشارع احتجاجا على تعيين الحدود، وأن يظل الوضع كما هو، ولا نعرف عبدالمنعم أبوالفتوح القيادى الإخوانى، وهشام جنينة، المتعاطف مع الجماعة، وحمدين صباحى، المعارض طول الوقت من أجل المعارضة، وخالد على، المناضل فى خانة العمل ببطاقة الرقم القومى، فلا عمل يدر عليه أرباحا كبيرة سوى النضال، والظهور أمام كاميرات وسائل الإعلام، لكسب مزيد من الزبائن لمكتبه الحقوقى، بجانب المدرس، جورج إسحق، وعددا من الناصريين واليسار- لا نعرف- كيف توصلوا إلى أن الجزيرتين ضمن الحدود المصرية عند التعيين؟
وهل هؤلاء خبراء فى علوم الجغرافيا والجيولوجيا والمساحة والبحار بجانب العلوم العسكرية؟ وما هى حيثياتهم، حتى يدلوا بدلوهم فى قضية تعيين حدود بحرية، وهل هم عباقرة خارقون للعادة، لكى يفهموا فى كل شىء أكثر من الخبراء والعلماء والمتخصصين ومؤسسات الدولة الرسمية؟
الحقيقة أن الذين انبروا احتجاجا وولولة على مناقشة البرلمان لاتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية، ليس من باب الوطنية، والدفاع عن الأرض، ولكن لتوظيفها سياسيا للهجوم على النظام، فقط، والدليل أن هؤلاء تبنوا عشرات القضايا، طوال السنوات السبع الماضية، تبين من خلال التسريبات الهاتفية، أنهم مارسوا كل أنواع الخداع والزيف على الشعب المصرى، وسمعنا ما فاق سقف الخيال، من كذب وتناقض والبحث عن المغانم وصراعهم وتخوين بعضهم البعض، من البرادعى لكل أدعياء الثورية، وبائعى التويتات المتجولين على مواقع السوشيال ميديا.
وكنت قد كتبت مقالا يوم 17 يناير 2017، تحت عنوان «السيادة والصدام والتوهان» فى قضية «صنافير وتيران»، ونظرًا لحالة الجدل المصاحبة لمناقشة البرلمان للاتفاقية، قررت أستعين بنفس العنوان، نظرا لتشابه حالة الجدل حول الاتفاقية إلى حد التطابق.
وتعالوا نتفق على أن ما نعيشه الآن من حالة جدل ومناقشات ساخنة، سببها الحكم الذى قضت به المحكمة الإدارية العليا، يوم 16 يناير الماضى، برفض الطعن المقام من هيئة قضايا الدولة، ممثلة عن رئاسة الجمهورية والحكومة، وتأييد الحكم الصادر من محكمة أول درجة «القضاء الإدارى»، ببطلان اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية.
هذا الحكم دشن لصراع السلطات ومحاولة كل منها التغول فى صلاحيات الأخرى، رغم أن هناك بحثا أعده الدكتور مقنى بن عمار، الجزائرى الجنسية، والمحاضر فى كلية الحقوق بجامعة ابن خلدون الجزائرية، بعنوان «أعمال السيادة كاستثناء عن اختصاص القضاء»، وذلك عام 2013، قال فيه نصا: «الأصل أن القضاء يختص بنظر كل المنازعات التى يمكن أن تنشأ فى المجتمع، أيًا كان سببها وأطرافها وموضوعها، إلا أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها، حيث توجد قضايا تكون بمعـزل عن رقابة القضاء، وهى ما يعبر عنها بأعمال السيادة أو أعمال الحكومة، وهى على كلٍ مختلفـة عن الأعمال الإدارية، وتحكمها اعتبارات أكثر منها قانونية».
الدكتور مقنى بن عمار، قال أيضًا فى بحثه: «نظرية أعمال السيادة شأنها فى ذلك شأن معظم نظريات القانون الإدارى، هى من صنع القضاء، وبالذات مجلس الدولة الفرنسى، وكانت وليدة الحاجة ومقتضيات العمل، حيث يكون لبعض الأعمال التى تقوم بها الدولة أهمية خاصة، فإنه من مصلحة الوطن ألا تعرض مثل هذه القضايا على القضاء، كما أنه قد لا يكون من مصلحة الحكومة عرضها على الجمهور».
ووضع الدكتور «مقنى» تعريفًا واضحًا لأعمال السيادة، حيث قال نصًا: «إن أعمال السيادة أو أعمال الحكومة هى طائفة من الأعمال التى تباشرها سلطة الحكم فى الدول، من أجل الحفاظ على كيان الدولة من أرض وشعب وسلطة، بمواجهة أخطار خارجية أو مواجهات داخلية عامة، كتنظيم سلطات الدولة وتحديد نظام الحكم، والعلاقة بين السلطات، وأول ظهور لفكرة أعمال السيادة كان فى فرنسا يوليو 1830، إذ كان أول حكم طبق هذه الفكرة هو قرار المجلس الفرنسى الصادر فى مايو 1822، ثم تطورت هذه الفكرة إلى أن أصبحت تشمل عدة ميادين تحكمها معايير غير قارة».
ومن المعروف أن القانون الجزائرى مستوحى من القانون الفرنسى مثل مصر بالضبط، لذلك عندما تأتى دراسة موثقة من محاضر فى القانون فى دولة أخرى، فالأمر يستلزم الوقوف كثيرًا أمامها بالفحص والتدقيق.
هذا التعريف، يتقاطع مع حكم الإدارية العليا، وخلف صدامًا بين السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وصراعًا خفيًا بينهم، فى محاولة كل منهم انتزاع سلطات جديدة دون الوضع فى الاعتبار لأعمال السيادة، الذى ورد فى الدستور المصرى.
المادة 5 من الدستور الحالى، تحدد الفصل بين السلطات والتوازن بينها، كما أن المادة 17 من قانون السلطة القضائية تقول نصا: «ليس للمحاكم أن تنظر بطريقة مباشرة وغير مباشرة فى أعمال السيادة دون أن تؤول للأمر الإدارى، أو توقف تنفيذه بأن تفصل فى المنازعات المدنية والتجارية التى تقع بين الأفراد والحكومة أو الهيئات العامة «عقار أو منقول»، عدا الحالات التى ينص فيها القانون على غير ذلك.
أما المادة 11 من قانون مجلس الدولة تقول نصا: «لا تختص محاكم مجلس الدولة بالنظر فى الطلبات المتعلقة بأعمال السيادة».
إذن ومن خلال هذا السرد المبسط لمفهوم أعمال السيادة، والفصل بين السلطات، فإن حكم الإدارية العليا فى قضية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية، أثار أزمة سياسية ودشن لصدام السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، ودفعت المزايدين إلى الانقضاض على النظام والبرلمان والقوات المسلحة، وتوجيه اتهامات لهم لا تمت للحقيقة بأى صلة، وبدأوا فى توظيفها اعتقادا منهم أنهم سيحركون الشارع، ويعيدون السلطة لجماعة الإخوان الإرهابية، باعتبار أن اليسار طوال تاريخه، يمارس دور كاسحة الألغام، التى تطهر كل الطرق المؤدية لقصور السلطة من أمام الإخوان.
ولك الله يا مصر...!!!