يأتى شهر رمضان ليعلمنا كيف نتغلب على خصلة ذميمة، إن تأصلت فى النفس كانت مصيبة على صاحبها، ذلك هو البخل والشح، فيأتى رمضان بالكرم، كرم النفس وكرم الطبائع، وكرم المال.
وقد كان رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكونُ فى رمضان حين يلقاهُ جبريلُ، فإذا لقيه جبريل - عليه السّلام - كان أجودُ بالخير من الرّيح المرسلة.
وإذا كان الجود والكرم من الصفات المحمودة فى الناس فإن النبى صلى الله عليه وسلم قد بلغ غايتها، حتى ما سُئِلَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، فجاءَه رجلٌ فأعطاه غنَمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلِمُوا؛ فإنَّ محمدًا يُعطِى عطاءَ مَن لا يخشى الفاقة.
وورد النص بأن النبى صلى الله عليه وسلم كان أجود بالخير من الرّيح المرسلة، أى: المطلقة، يعنى فى الإسراع بالجود أسرع من الرّيح، وعبَّر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرّحمة، وإلى عموم النّفع بجوده وكرمه كما لا تفرق الريح بين واحد وغيره فتشمل جميع ما تهبّ عليه.
قال الشافعيُّ - رحمه اللّه - : أحبُّ للرّجل الزّيادة بالجود فى رمضان، اقتداءً برسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم -، ولحاجة النّاس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصّوم والصّلاة عن مكاسبهم.
إن الصّائم ببذله وعطائه إنما يُقرض ربَّه ليوم فقره وحاجته، يوم الفقر والمسكنة.
ولا يعنى الأمر بالكرم والبذل أن يبذل الإنسان كل ماله، أو أن يتكلف فى إكرام غيره بما يأتى على ماله كله، إن الامر بالإكرام تدريب على الجود والكرم الذى لم يتعود عليه بعض فشربة ماء، ومزقة لبن، وتمرات يسيرات، وقليل من الطّعام والمال، يُسديها الصائم إلى محتاج قد تكون الطريق إلى الجنّة، فضلا عما يعود على المنفق الكريم من نفع فى الدنيا، فلا يحفظ المال مثل الصّدقة، ولا يزكى المال مثل الزكاة، ولا يبارك فى العمر كالعطاء، وكم من الناس من ضمتهم القبور، وقد خلفوا وراءهم الأموال والقصور فلم تفدهم أموالهم إلا الحسرة والندامة لما بخلوا بها على خلق الله.
يقول النبى صلى الله عليه وسلم: إن بعض الصحابة قال: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعطى الله تعالى هذا الثواب من فطر صائما على تمرة أو شربة ماء أو مزقة لبن. ففى هذا التيسير دعوة مؤكدة للتدريب على إكرام والجود والإحسان إلى الغير ولو بأقل القليل.
إنّ رمضان يدعو الصائمين للبذل والعطاء، ورحمة الفقراء والمساكين، وهى دعوة فى ذات الوقت لينفع نفسه ليُقرض ربَّه فى الدّنيا فيُكرم بقرضه يوم يلقاه: { إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}.
والجود والكرم يكون فى القلب قبل اليد، كما أن الغنى والفقر يكون فى النفس قبل اليد، ليس الغنى عن كثرة العرض لكن الغنى غنى النفس.
وإذا كان الكريم يرفع درجات عند الله تعالى، فإن حظه فى الدنيا موفور كذلك، وكم من رجال كرماء حماهم الله وصانهم عن الشرور والآثام بكرمهم، فصنائع المعروف تقى مصارع السوء.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا غنى النفوس قبل غنى الفلوس.