وما ذنب المجمع العلمى، الذى عاشت مصر من أجله أسود يوم، 17 ديسمبر 2011، بفعل المولوتوف وكرات اللهب، التى أرادت أن تحرق تاريخ أمة وذاكرة وطن. لم يكن عملا ثوريا ولا بطوليا ولا أخلاقيا، ويشبه قيام طالبان بتحطيم التراث الحضارى فى أفغانستان، الفعل واحد والهدف واحد، هو محو أدلة ثبوت الهوية الوطنية، وترسيخ أصول الهمجية التى انفجرت كالبالوعات فى شوارع مصر، وكان البلطجية الذين اشعلوا النيران، مجرد أصابع قذرة تحركها مؤامرة كبرى لحرق وطن بأكمله.
وكان حريق المجمع العلمى نقطة تحول خطيرة فى مسار الرأى العام ضد الفوضى والتخريب والسلب والنهب، وصرخ المصريون بحثا عن المنقذ، فلم تدمر زجاجات المولوتوف فقط 200 ألف كتاب، ولم تأت فقط على جميع الوثائق والخرائط النادرة، ومذكرات ليوناردو دافنشى وكتاب وصف مصر، ولكنها كانت رسائل للعالم بأن مصر ضاعت ودخلت زمام «الربيع العربى» من أوسع أبوابه، وأتذكر أن الخارجية الفرنسية ترجمت انزعاجها فى بيان غاضب، وصفت ما حدث بأنه كارثة عالمية، تهدد التراث الإنسانى.
وللذكرى التى قد تنفع المؤمنين، فإن الذى تباهى بالاعتراف على الهواء مباشرة ، بحرق حزء من قلب مصر، هو أحمد دومة، رافعا شعار «المولوتوف ثورة»، وكانت كلماته الاستفزازية خبطة فوق رأس المخدوعين والمغيبين والصامتين، فكيف يكون حرق هذا الأثر التاريخى النادر «ثورة» وفى أعماق المصريين عشق أصيل لبلدهم وكنوزها وحضارتها، ونسى مشعلو الحريق يوم خروج الشعب المصرى عن بكرة أبيه ليودع الملك رمسيس الثانى من الميدان الذى يحمل اسمه إلى المتحف الجديد، وظلوا يسيرون وراء الموكب بالآلاف، حتى وصل إلى مقره فى الفجر، فى حمايتهم ورعايتهم وحبهم، وتحول حريق المجمع إلى بركان من الكراهية انفجر فى قلوب عشاق مصر، وثورة غضب مضادة، مهدت الطريق إلى الحدث العظيم 30 يونيو.
هل تذكرون يومها ماذا قال الإخوان وزعيمهم الخفى عبدالمنعم أبو الفتوح؟ «الحريق لم يكن صدفة، ولكنه كان مدبرا لإحراق الاتفاقيات الدولية والخرائط الخاصة بالأمن القومى المصرى»، وكانت عبارات أبو الفتوح الماكرة - بين القوسين - إشارة بدء لتقييد الجريمة الكبرى ضد الطرف الثالث واللهو الخفى، ودفع الإخوان بشهود زور فى برامج التوك شو، يتهمون الجيش أو العسكر بحرق المجمع العلمى، ولكن لم يصدقهم أحد، فالناس يرون بعيونهم ويلمسون بأيديهم أن الجيش هو المنقذ والأمل الباقى لحماية البلاد كلها من مصير المجمع العلمى.
ولم يكن فعلا ثوريا - أيضا - اقتحام المتحف المصرى بميدان التحرير، فى يوم أسود آخر فى تاريخ مصر، 27 يناير 2011، ووصل وجع القلوب ذروته، باقتحام القاعات وتحطيم الفترينات الزجاجية، وإلقاء الآثار التاريخية النادرة على الأرض، مما أدى إلى تحطمها، سرقوا تمثال الملك توت عنخ آمون، والملك إخناتون وزوجته الملكة نفرتيتى. إنهم ليسوا ثوارا ولا أحفاد هؤلاء الفراعنة العظام، إنهم أولاد الشياطين الذين لا يعرفون الكنوز التى يبيعونها فى الأسواق بآلاف الجنيهات، بينما قيمتها الحقيقة تفوق مليارات، إنها تاريخ مصر وحضارتها وهويتها وبطولاتها، مصر التى تريدون حرقها أيها الأوغاد.
الجيش هو الذى أوقف ألسنة لهب «الجحيم العربى»، ووفر الحماية لملوك الفراعنة العظام، ومنع استكمال تدمير متحفهم، وأعاد الاعتبار لوطن حزين، حين انتهى من إعادة بناء المجمع العلمى فى 90 يوما. الجيش هو الذى وقف على أبواب مصر، يمنع اقتحامها، ويحمى شعبها من مصير خيام النازحين على الحدود، والباحثين عن الأمان فى مراكب الموت.
لنا وطن.. وللحديث بقية.