فى كتابها ثرثرة فوق نهر التايمز تقفز الدكتورة منى النمورى من سفينة أدب الرحلات بطابعه الكلاسيكى الذى اعتاد عليه القارئ فى هذا النوع الأدبى المسلى غالبا، كى تصحبنا فى مغامرة للكتابة تتجاوز الحكى التقليدى ويحسب لها أنها أقدمت على مغامرتها بجرأة وهى تستعرض ترحالها إلى بريطانيا العظمى غير عابئة بتراث الكتابة فى مجال أدب الرحلات، الذى اقتحمته برؤية جديدة تحمل فى طياتها أبعادا تتشابك فيها بعمق مفرادات خلفيتها الثقافية التى تنسجها من خلال العمل بسلاسة لاتنتقص من طبيعة الصنف الأدبى الذى اختارته كى تستعرض فيه رحلتها.
فى ثرثرة منى النمورى تتداخل الذات مع الآخر فى جدل ونقاش ثرى وهى تغزل ثرثرتها مع القضايا الإشكالية التى تتطرق لها بقدرات إبداعية تنأى بها عن التقريرية، لأنها تتسلل بالأفكار عبر النص بحس رقيق فى الكتابة لا يشعر القارئ بخشونة الموضوع، حينما يكون ذا طبيعة فكرية أو نظرة فلسفية وفى تجليات النص كافة لا تتخلى عن أدبية الكتابة التى تتصف لديها بجماليات تعتمد على التدفق فى السرد ببساطة حيث تنتفى عن العمل تيمة الحدوته وإن كانت فى آن تحتشد بحكى مسهب، عما جرى فى الرحلة التى تستدرجنا لها من خلال تعدد الأصوات داخل المتن وهنا تتبدى شجاعة المغامرة فى الخروج عن المألوف .
تعدد الأصوات فى العمل حيلة فى بناء النص تلبى الضرورات التى أسست لأدب رحلات غير مسبوق تتماهى فيه الأمكنة والأزمنة من خلال تمازج مع راهنية وتاريخية الواقع السياسى والاجتماعى والإنسانى فى تعدد أبعادها التى تشى بالرؤى والقناعات لدى الكاتبة والملفت فى هذا التعدد للأصوات المصاحبة لحكى الكاتبة، هو التنوع طبيعة كل شخصية فمدام نظيفة قرينة الكاتبة كما أوضحت فى بداية الرحلة والثرثرة تطل علينا طوال النص كما لو كانت نقطة نظام فى مساجلة وهى كثيرا صوت ناقد يكشف الخلل والزيف وهنا تتجلى براعة منى النمورى لأن هذه الشخصية المصاحبة مكنتها فى تكنيك الكتابة من تلافى طغيان الرأى الشخصى المشتبك مع أوجه القصور .
وفى الجزء الأول أى من رحلة الأسرة إلى بريطانيا نجد أن الزوج حاضر بقوة منذ البداية كصوت أبوة مفعمة بحكمة رب الأسرة الحصيف، وهو فى النص يترك بصمته فى المواقف الحرجة والصعبة دون أن يعم المشهد التوتر وبعد الأب يأتى الأبناء بطبيعهم المثيرة "للدوشة" والامتعاض، ثم يأتى الأصدقاء المقيمين فى بريطانيا الذين يفتحون دائما نافذة لرأى آخر فى مساحة االفكر خارج سياق الحكى.
وقبل أصدقاء الغربة توافد على العمل الأصدقاء الذين ساهموا كى تنتقل الثرثرة من مخطوطة الكاتبة إلى عالم الكتاب ومن قبل كل هؤلاء يأتى صوت الحاضر الغائب حسين قدرى الصحفى الذى باغتها كتابه "مذكرات شاب مصرى يغسل الصحون فى لندن"وهى فى مقتبل عمرها وصار محتواه هاجسا يراودها حتى تعددت زيارتها للملكة التى لم تكن تغيب عن أملاكها الشمس لهذا يتردد صوت أو وجود حسين قدرى مرات متعدده بين ضفتى الكتاب.
هكذا منح تعدد وتنوع الأصوات فى هذا النص غير الخاضع للأطر والقواعد السائدة فى أدب الرحلات زخما ذا صبغة درامية رغم تصارع الأفكار فيه أحيانا والتطرق لجوانب تغلب عليها أحيانا رؤية الرصد التحليل.
الكتاب يتكون عن 39 عنوان لاتزيد مساحة أى منهم عن عدد قليل من الصفحات مما يجعل القراءة سهلة والانتقال بينها يأتى فى تسلسل منطقى لتعاقب الأحداث لكن النمورى التى تنفر من النمطية تباغتنا بكسر هذه السيمترية مما يمنح النص حيوية تزيح عنه الرتابة والملل والمتن الذى يحتوى موضوعات الكتاب يذخر بلغة ذات بساطة آسرة متعددة المستويات مابين الفصحى والعامية ومابين النثر والشعر والنص فى مجمله نزعة إنسانية ووطنية تمازج بينهما الكاتبة بتوازن وسلاسة وتتبدى أدبية الكتابة فى عبارات مثل "كل شيء محسوب فى بلاد الإنجليز حتى الرحمة"و "بلدة أنيقة للغاية وكأنها تخرج من كارت بوستال مطبوع على ورق كوشيه فاخر" لكنها فى لحظة فوران عاطفى تستجيب لكتابة رومانسية خلابة "الصور تتراقص فى ذهنى تبهج قلبى وتوجعه، رأيتنى شابة صغيرة مملوؤة ببراءة الحلم، وروعة الجهل، وتلقائية الغرور، أترك الموسيقى تتغدغ قلبى، وترسله فى عوالم بعيدة ظننتها قد تلاقينى فى حياتى ولم تفعل. رأيتنى السخص الذى لم يعد موجودا وأوجعتنى" .
فى نهاية الكتاب تلخص منى النمورى هذا النص الذى قد يبدو إشكاليا فى بنية الحكى لمن اعتادوا على نمط سائد من أدب الرحلات عندما يطرح صوت هذا السؤال "يعنى الكتاب ده رواية ولا إيه ؟ أنا ماعدتش فاهم! بعدها تأتى الإجابة التى تحمل من الفطنة قدر ماتحمل من المكر " مش رواية .. مش أى حاجة .. ثرثرة .. بس كده !" .