الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا لم تُعرف بتفوقها أو تميزها فى مجال التعليم الفنى والمهنى، بل إنه لا يعرف لها نظام تعليمى بارز فى هذه المجالات كما هو موجود فى ألمانيا - على سبيل المثال - فى النظام التعليمى المزدوج Dual-System الذى كان مثار إعجاب دول عديدة قلدته فيما بعد وهو النظام، الذى يتيح للطالب الالتحاق بمسار تعليمى مهنى ابتداءً من الصفين السادس والسابع ويتيح له فى نفس الوقت إكمال دراساته العليا فيما لو رغب فى ذلك.
كما أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعرف نظام المؤهلات المهنية، التى طبقته بريطانيا بكفاءة وأصبح سمة من سمات نظامها التعليمى والتدريبى، الذى يتيح بتقسيم مستويات المهن إلى خمسة أو ستة مستويات ومن ثم يتم التأهيل العلمى والمهنى، حسب تصنيف المهنة المحدد فى المستوى المحدد.
وعلى الرغم من توفر العديد من معاهد التدريب العليا فى الولايات المتحدة وتوفر مسار التدريب المهنى فى كليات المجتمع وكليات التقنية، التى بدأت بالظهور مؤخرًا إلا أن هذه البرامج لم تأخذ هوية متماسكة لتعلن عن وجود مستوى متميز للتعليم المهنى والفنى يمد سوق العمل فى الولايات المتحدة الامريكية بالأيدى الماهرة، بل إن معظم تلك المسارات ينظر إليها على أنها تكملة لنظام التعليم العالى وليس منفصلًا عنه كما هو الحال فى بعض الدول الأخرى.
إذن فالولايات المتحدة لم تتفوق فى التعليم العام لا التعليم الفنى والمهنى، ولا فى مؤسسات التدريب المتخصصة، وإنما تفوقت فى نظام التعليم العالى، وأوجدت لها أنظمة وممارسات وتجارب أصبحت مثار إعجاب وتقليد من كل دول العالم.. فلا يوجد فى دول العالم كافة من الجامعات والكليات والمؤسسات الأكاديمية مثلما يوجد فى الولايات المتحدة من حيث عددها وتنوعها وكفاءتها العلمية، وتوفر الأنظمة والتقاليد الأكاديمية العريقة، التى ساهمت فى احتضان أبرز الكفاءات العلمية من كل دول العالم وأتاحت لهم الحرية ووفرت لهم الإمكانات للعمل والبحث والتدريس ما لم توفره دولة أخرى فى العالم فى نظام لا يفرق بين البشر حسب اللون أو العرق أو الدين أو الجنسية.
فى تقديرى أن التعليم العالى فى الولايات المتحدة كان واحدًا من أهم عوامل التفوق، التى جعلت أمريكا تتبوأ مركز الصدارة وتتربع على قمة الدول اقتصاديًا وعلميًا وثقافيًا ومن ثم عسكريًا وسياسيًا.. ونتحدث فى المقالات القادمة- بإذن الله- عن أبرز سمات التعليم العالى فى الولايات المتحدة..
وربما ماكتبه المحرر العلمى فى قناة النيل للأخبار تحت عنوان «أسطورة الأفول الأمريكى فى السياسة والاقتصاد»، يكشف المزيد عن التقدم الأمريكى، وهل هناك احتمالية لأفول هذه الدولة العملاقة، حيث يقول إن نصف قرن من التهكنات الكاذبة”، والمعروف عن هذا الكاتب، وهو الألمانى “جوزيف بوف”، أنه يعتقد اعتقادًا راسخًا بديمومة الدور الأمريكى فى العالم، وهو يرى فى كتابه أنه كل مابين 10 أو 15 عامًا تظهر تكهنات، يصفها بأنها “كاذبة”، تقول بأن الدور الأمريكى إلى أفول، ثم لاتصدق هذه التكهنات.. مؤلف الكتاب كتب مقالة فى صحيفة “لوموند” الفرنسية المرموقة، أكد فيها نفس المعنى، وزاده إيضاحًا: فأكد أن الرهان الأمريكى على التقدم العلمى وحده للحفاظ على مكانتها فى العالم.. والواقع المجرد: إن أمريكا تقود العالم علميًا، وأنه رغم تعاظم قوى أخرى فى العالم اقتصاديًا – فى مقدمتها الصين – فإن الأمريكيين مستمرون فى التفوق العلمى بمؤشرات شديدة الوضوح: تجعل ردم الفجوة العلمية– أو حتى تضييقها – بينهم وبين القوى النامية فى العالم أمرًا غير متوقع.. ولو فى المستقبل المنظور، هكذا تقول الأرقام والحقائق المجردة.
وأشار إلى أن كل دول أوروبا توحد جهودها فى المعترك الفضائى فى منظمة واحدة: هى وكالة الفضاء الأوروبية المسماة اختصارًا “إيسا”، فهى تقارن شهرة “إيسا” بشهرة نظيرتها الوكالة الفضائية الأمريكية “ناسا” عند رجل الشارع فى العالم؟ وإن ذلك لم يأت نتيجة مجرد الشهرة المترتبة على رنين الاسم: لكن الواقع المجرد أن قدرات “ناسا” العلمية والتكنولوجية لا تقارن بأى نظيرة لها فى العالم، ليس فقط “إيسا” وحدها: لكن أيضًا الوكالة الفضائية اليابانية “جسكا” وغيرهما، إن كان هذا لا يعنى من أهميته “إيسا” و“سكوزموس” و“جسكا”، كما لايعنى التقليل من قيمة القدرات الفضائية الصاعدة فى الصين والهند.
يذكر “جوزيف بوف” فى مقالته فى “لوموند” أنه بوضع الاتحاد السوفيتى القمر الصناعى الأول فى التاريخ “سيوتنيك” فى مداره حول الأرض سنة 1957: حدث تحول لا ينكر فى القدرات العلمية والتكنولوجية لصالح “السوفيت” فى ذلك الوقت، لكن الولايات المتحدة استعادت التفوق على نحو حاسم بإرسال أول إنسان إلى القمر سنة 1969.
وفقًا لمعلومات الشبكة الرقمية «ديجيتال ساينس» العلمية: فإن الولايات المتحدة تتصدر دول العالم فى عدد البحوث المنشورة فى الدوريات المعتبرة علميًا، وفى عدد براءات الاختراع المسجلة فيها، وفى الإنفاق على البحوث والتطوير، وعدد شهادات الدكتوراه الممنوحة فى العلوم والهندسة.. الدولتان التاليتان للولايات المتحدة: ألمانيا ثم الصين، وكل منهم حجم هذه العوامل الأربعة فيها نحو 20 % من حجمه فى أمريكا.