دخل حسين خيري نقابة الأطباء وسط هتاف الآلاف من زملائه وتلامذته، في مشهد لا رياء ولا اصطناع فيه.
لا مأجورين ولا مغيبين يهتفون باسم المخلوع أو المعزول أو الحاكم (أيًا كان) أو ذلك المنتظر المرتقب في العواصم البعيدة والقريبة..ليحكم تارةً أخرى.
أطباءٌ يدركون مصلحتهم ويهتفون لرجل تشهد على مصداقيته السنون التي أنفقها بين تلامذته ومرضاه.
قابلته قبل عدة سنوات وهو يكشف على أحد الأقارب، وكان بجواري صديقي الطبيب الذي تتلمذ على يديه يومًا ما، وأدار الدكتور حسين خيري معه حوارًا رقيقًا حول التخصص الذي اختاره صديقي.
ثم أبدى خيري انطباعًا حزينًا صادقًا، ومما فهمت، كان يرى صديقي طبيبًا أمهر في تخصص غير الذي اختاره.
كان الرجل مهمومًا بتلميذه، وبمستقبل مهنة بأسرها يتمنى لو رأى كل فرد فيها في مكانه الأمثل. وبعدها بسنوات حين صار نقيبًا للأطباء، برقت بارقة الأمل في النفوس.
ولما حان حين الجد، كان الرجل على قدر المسؤولية ولائقًا بجلال اللحظة.
(2)
الدلالات الرمزية فيما فعلته نقابة الأطباء في جمعيتها العمومية يوم الجمعة، أهم بكثير من مجرد التصعيد لأجل طبيب مستشفى المطرية المعتدى عليه. فقد تعاظمت كرة الثلج في الطريق- لحسن حظنا- لتتبنى النقابة مطالب أبعد من مجرد حماية الأطباء من بلطجة أفراد الشرطة.
فالدولة المتباطئة في إحقاق الحقوق، والتي تعلي من وزارة الداخلية فوق المصريين جميعًا، يليق بها أن تبدو مرتعشة عديمة الحيلة أمام الحشود التي زحفت إلى دار الحكمة حيث مقر النقابة.
النظام الذي لا يدرك كيف يرتب أولوياته ولا كيف يتعاطى مع أزمات البلد ولا كيف يضع كل شيء في نصابه، لا يستحق مشهدًا أفضل من مشهد الخزي الذي يعايشه في شارع قصر العيني.
ونقابة الأطباء قالت إن جماعات المجتمع بمقدورها أن تتحرك بصورة منفصلة عن الكيانات الصورية الهزيلة التي يفترض بها أن تحق الحقوق، كالحكومة والبرلمان والنظام السياسي الذي يدير البلاد.
اليوم الأطباء وغدًا تنتشر العدوى، وتدرك كل جماعة قوتها الذاتية وقدرتها على إحراج الدولة وإخضاعها، فيما كابرت الدولة على الاعتراف به أو التعاطي معه ممثلما تتعاطى الدول والأنظمة «التي تدرك».
أما تلك التي تسوف وتماطل ولا تمتلك حلولًا حقيقية، فعادة ما تنتهي ببيانات متلفزة تعلن فيها الثورات أو الجيوش نهاية صلاحيتها.
(3)
ما أقرته الجمعية العمومية للنقابة وسط حضور غير مسبوق، تخطى دور النقابة كرابطة تجمع أبناء المهنة الواحدة وتقوم على مصالحهم وعلى ترتيب أوضاع المهنة الداخلية.
فقد تبنت النقابة قرارات في صميم العدالة الاجتماعية بعدم تقاضي أي اموال من متلقي الخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية، فضلا عن رفض خصخصة الخدمات الصحية وتحويلها إلى سلعة سياحية.
عطفًا على التشديد على حماية المباني الطبية وحماية الأطباء من المعتدين سواء من البلطجية أو من أفراد الشرطة! في سابقة سيقف أمامها التاريخ طويلًا!
وأخيرًا بمطالبة وزير الصحة بالاستقالة وإخضاعه للتحقيقات الداخلية، تسحب النقابة كممثل للمهنة الشرعية من «الوزير» بحيثيته السياسية وبالشرعية التي يكتسبها من وجوده داخل جسم الحكومة، على نحو أعاد للشعب وممثليه الحقيقيين حق التقييم والعقاب، بدلًا من هياكل الدولة الهشة والفاسدة والمفسدة.
(4)
في نموذج حسين خيري ومنى مينا مثال رائع لمواصفات الذين يفترض بهم التصدي للعمل العام، ومثال جلي لما يمكن للمصداقية أن تحصده من قلوب الجماهير.
النماذج الملهمة الصادقة التي افتقدناها في المجال العام منذ سنين، حين تعود بنسبة وتناسب قويمين، ستطهر هذا الوطن مما علق به من علائق الأنظمة المتعاقبة ومن فساد الذمم والضمائر.
وأخيرًا على وزير الداخلية أن يفكر إذا ما قرر التوجه لمؤتمر حاشد لأفراد وزارته أو لأمناء الشرطة.. هل ستهتف له الحشود؟ هل سيحتفي به أحد؟ هل سيقف معه الرأي العام؟
وعلى الذين فوق وزير الداخلية أن يسألوا أنفسهم السؤال ذاته، مهما كانت الإجابة محرجة.
نقلاً عن المصري اليوم