أحيانا يكون الصمت تعبيرا عن أعلى درجات الغضب، فالجميع قلق غاضب وفى انتظار كيف ستنتهى أزمة قطر التى توغلت بدعم الإرهاب والخراب على محيطها العربى، وبالتالى بعد مرور شهر من الأزمة ودراسة المشهد السياسى خرج التقرير الأخير من مركز المستقبل للدراسات المتقدمة فى أبوظبى يشرح لنا كيف تصرفت الدوحة، على مدى العشرين عاما الماضية، وتحديدًا بعد تولى الأمير حمد بن خليفة الحكم ومن بعده نجله تميم، على أنها دولة فى مأمن من العقاب، معولة دائما على أنها محتمية بالولايات المتحدة التى وظفت قطر كهمزة وصل مع بعض الجماعات والتنظيمات المتطرفة، علاوة على المصالح التجارية والعسكرية التقليدية بين الطرفين.
وفى الأزمة الحالية غالبًا لم تتوقع حكومة قطر أن تُقدم السعودية والإمارات والبحرين ومعها مصر، إلى جانب بعض الدول الأخرى، على قطع العلاقات الدبلوماسية معها، وتزيد على هذا بإجراءات للمقاطعة بحرا وبرا وجوا، ثم تفكر الآن فى تصعيد آخر مكمل وربما عدد من الإجراءات الإضافية، بعد الرد القطرى السلبى على «قائمة مطالب» الدول المقاطعة لها، فعلى مدى السنوات الماضية، تصرفت الدوحة على أنها تملك هامشا كبيرا من المناورة، وأن بوسعها الاستمرار فى اللعب على حبال التناقضات بين مواقف الدول ومصالحها، وأنها ستنجو على الدوام من المساءلة أو الحساب أو العقاب، متدثرة بألوان من الدعاية السياسية، والعلاقات الخفية، والرهان على مصالح الغرب معها، وعلى شبكة العلاقات القوية التى نسجتها مع جماعات «الإسلام السياسى» بمختلف دوافعها وتنظيماتها وتوجهاتها، ثم أخيرا على علاقات متنامية مع قوتين إقليميتين هما تركيا وإيران.
«تراجع قطر عن الخطر»، وهو ما كان يعنى إقدام الدوحة، ولو بعد حين، على اتخاذ كل الإجراءات التى تطمئن دول الخليج العربية، وتعطى فرصة لهذه الدول فى اختبار نوايا الدوحة، وانتقال وعودها من مجرد كلام، كما جرى فى المرات السابقة، إلى إجراءات حاسمة على الأرض، بما فى ذلك إحداث تغيير فى بنية وتوجهات السلطة القطرية يتم بمقتضاه التأثير فى سياسات وأفكار مهندسى المشروع القطرى الراهن، أو بمعنى أدق أولئك الذين يمثلون همزة وصل بين قطر وقوى إقليمية وعالمية تحرك الدوحة وتستخدمها «حصان طروادة» لخدمة مصالحها، ويتطلب هذا فك الارتباط مع التنظيمات المتطرفة، وتغييرا حقيقيا فى توجهات السياسة الخارجية القطرية إقليميا ودوليا، على أن تشهد الدول التى تتضرر من السياسات القطرية بأن ثمة تغيرا فارقا فى سياسات قطر وفى توجهات إعلامها. وإذا كانت الدوحة تُبدى، حتى الآن، عنادا فى الاستجابة للمطالب الـ13 للدول المقاطعة لها، فإن إجراءات عقابية أشد قد تدفعها إلى الرضوخ فى النهاية، لكن قطر لم تتراجع حتى الآن، ويبدو من تصرفاتها السياسية والإعلامية والاقتصادية أنها استعدت لعناد طويل.
وكان هناك اتجاه آخر راهن على سيناريو بدا متفائلاً وهو «الاستغاثة»، بمعنى أن تكشف الدوحة كل أوراقها للقيادات السياسية فى العالم العربى، خصوصا دول الخليج العربية، وتبين حجم تورطها فى المسار الذى توغلت فيه إلى هذا الحد المنبوذ، وأنها لم يعد بمقدورها العودة بمفردها وإلا كلفها الكثير، فى هذه الحالة تطلب الأسرة الحاكمة فى قطر، بعد أن تصارح نفسها، مساندة ومساعدة من الدول الخليجية والعربية حتى يكون بوسعها أن تعود، إذن، يتبقى أمام قطر الآن ثلاثة خيارات للتعامل مع أزمتها الراهنة، وتتمثل فى الآتى:
1 - التسكين: هنا تراهن الدوحة على الزمن فى تخفيف الضغط والخناق، وحلحلة الموقف الخليجى الأخير، والاستعانة بأطراف إقليمية، وعلى رأسها تركيا، من أجل حماية عسكرية، وإيران، من أجل مساعدة اقتصادية، وكذلك أطراف دولية وفى مقدمتها الولايات المتحدة، طمعا فى ضغوط، مع اتخاذ إجراءات من طرف واحد لطمأنة الدول المتضررة من السياسة القطرية الحالية، وهنا تحلم قطر بتمييع الموقف بمرور الوقت، لتعود إلى سابق عهدها فى ممارسة التناقض بين القول والفعل.
2 - التمادى: حيث العناد والإصرار على انتهاج سياسات ترى السعودية والإمارات والبحرين ومصر، أنها تشق الصف العربى، خصوصا الخليجى، وتعادى مصالح كل الدول، وهذا يعنى الذهاب إلى مدى أبعد فى الخصومة مع دول مجلس التعاون الخليجى، والارتماء أكثر فى حضن طهران، وتوطيد علاقة أشد مع أنقرة، واستمرار العلاقة مع جماعات «الإسلام السياسى»، والرهان على رفض الدول الكبرى للتدخل العسكرى، ومحاولة إيجاد ذريعة دائمة لتخويف القطريين على مستقبل بلدهم، وإقناعهم بأنهم مستهدفون، ولا بديل أمامهم عن الالتفاف حول قيادتهم السياسية، والرضا عن رهاناتها وخياراتها وعلاقاتها.
3 - التصعيد: أى أن تقوم الدوحة بتأجيج الصراع، وذلك من خلال تسريع خطوات الانتقام من الجميع، فتزيد فى تمويلها لكيانات خارجة عن القانون، وتوجه بعضها للقيام بعمليات داخل الدول المقاطعة لها، وتُذكى الصراعات الطائفية، أملاً فى إحداث فوضى واضطرابات فى دول عربية، رغبةً فى تصدعها وتفككها بما قد يؤدى إلى توسع نفوذ قطر فى محيطها الجغرافى والسياسى.
وقد يأخذ التصعيد شكلاً آخر يتمثل فى تمكين أكبر لجماعة الإخوان وأتباعها من القرار القطرى، بزيادة تغلغلها فى بنية السلطة هناك، وتوظيف إمكانياتها وشبكاتها فى خدمة الدوحة، التى يمكن التعامل معها، فى هذه الحالة، على أنها «الوطن البديل» للإخوان، ومثل هذا الوضع، الذى يعنى هروبا قطريا إلى الخلف، يشكل تهديدا مباشرا ليس لدول الخليج العربية فقط، بما فى ذلك التى لم تشارك فى مقاطعة قطر، وهى الكويت وسلطة عمان، بل أيضا للعالم العربى برمته. لا شك أن الدول المقاطعة لقطر تدرك جيدا تداعيات المسارين الثانى والثالث، وستعمل على مواجهتهما ودحضهما، حيث تملك هذه الدول أوراق ضغط أخرى، ربما لم تكن بعيدة عن اجتماع قادة الاستخبارات فى الدول المقاطعة لقطر والذى سبق اجتماع وزراء خارجية السعودية والإمارات ومصر والبحرين فى القاهرة يوم 5 يوليو الجارى. وبالتالى يُتوقع أن تطول الأزمة الحالية، وأن يكون ثمة تصعيد تدريجى ضد الدوحة سيؤدى إلى عزلتها فى ظل تعنتها وعزمها الاستمرار فى سياساتها الراهنة غير المقبولة، وهو ما بدا واضحا فى تأكيد وزراء الخارجية على أن المطالب التى قُدمت لقطر لا تحتمل المساومات والتسويف، وإعلانهم استمرار المقاطعة السياسية والاقتصادية للدوحة، بل واتخاذ خطوات إضافية ضدها.
يبقى لنا سؤال: هل الغضب العربى ينتهى بمدى الدور الأمريكى لإنهاء الأزمة؟! أم هناك دور منتظر لمجلس الأمن أو المحكمة الجنائية الدولية لإطالة منظومة الإنهاء لهذة الأزمة؟!