من الظواهر المدهشة، فى عالمنا العربى بشكل عام، وفى المجتمع المصرى على نحو خاص، ذلك الإقبال الواضح، والتفاعل الإيجابى الملموس، مع كل صور دراما الجاسوسية، وبخاصة على شاشة التليفزيون، الذى صار يمثَّل فى عصرنا الحالى، الواجهة الإعلامية الأولى، قوية الانتشار، ويبدو التفجَّر الحقيقى للعلاقة بين المشاهد ودراما الجاسوسية - بحسب كاتب الجاسوسية " نبيل فاروق " - مع أحد أقوى المسلسلات التليفزيونية فى هذا المضمار، وهو مسلسل " رأفت الهجان "، الذى نقل تفاصيل معالجة درامية، لأحد ملفات المخابرات الحقيقية، حول أحد أقوى العمليات المخابراتية، وأدى فيها دور البطولة النجم "محمود عبدالعزيز"، وحقَّق نجاحا مذهلا، حتى أن شوارع مصر كانت تخلو تقريبا من المارة، فى أوقات عرض المسلسل، كما أن الحماسة قد تفجَّرت فى كل القلوب والنفوس، مع استعراض المسلسل للعبة الذكاء المدهشة، التى تم من خلالها اختيار شاب متهم بالتحايل، وتدريبه وصقله، واستغلال مواهبه الفطرية، من خلال خبراء المخابرات العامة المصرية، ليتحول بعدها إلى واحد من أهم عيون مصر، المزروعة فى قلب المجتمع الإسرائيلى، ويمارس مهامه بنجاح منقطع النظير، حتى إنه يموت فى النهاية فى فراشه، دون أن ينكشف أمره.
الكلام السابق فى مناسبة عرض مسلسل "الزيبق" الذى يعد واحدا من تلك الأعمال الشيقة، فعلى قدر بعض العيوب التى طالته يبدو العمل جيدا على المستوى العام، بل يعد من أفضل المسلسلات التى تم تقديمها فى رمضان 2017، من وجهة نظر المتلقى العربى والمصرى، نظرا للبساطة والاتقان وسرعة الأحداث بشكل جيد، فلا يوجد مجال للابتذال والمط، أو كما يقال "الحشو الفاضي" لملء فراغات حلقاته الثلاثين، مقارنة بما سبقه خلال السنوات الخمس الأخيرة من مسلسلات مثل "عابد كرمان" الذى قام ببطولته "تيم الحسن" أو مسلسل "حرب الجواسيس" الذى قامت ببطولته منة شلبى، وقد كان المأخذ الرئيسى للمسلسلين هو التطويل الشديد فى حين أن يمكن أن يتم العمل الدرامى فى أقل من 10 حلقات بشكل مميزة وشائق ولائق.
أجمل ما جاء فى مسلسل "الزيبق" أنه وضع اسقاطات ضاحكة تناسب العديد من المواقف بالمسلسل، فلم يتخلى المخرج "وائل عبدالله" من وضع لمسة خف الظل لكريم عبد العزيز، والسخرية من العديد من المواقف مما أضفى على المسلسل العديد من المصداقية والمتعة فى المشاهدة، ومن الناحية الاجتماعية، بعدما تغيَّرت صورة رجل المخابرات وجهاز المخابرات، فى قلب وعقل كل مصرى، مع تواصل تقديم هذا النوع من الدراما، إذ صار هناك احترام كبير وعظيم فى كل النفوس، تجاه رجال المخابرات، وما يقدمونه من أجل أوطانهم، وما يضحون به من حياة اجتماعية أو أنفس، فى سبيل وطن قد لا يعلن حتى عن تضحيتهم هذه أبدا، ذلك الاحترام ولَّد فخرا جديدا، زاد من الشغف والإقبال على متابعة دراما الجاسوسية، فى كل مراحلها، وربط بين كل مواطن وهذا العالم المثير، وتلك الأحداث المتشابكة، ذات العلاقات المترابطة، على نحو غير مباشر، وغير واضح للعدو، والأهم من كل هذا هو أن روح الانتماء الغريزية، فى أعماق كل مخلوق، تتفشى بمتابعة دراما الجاسوسية، وتثبَّت فى الأعماق شعور الهدوء والأمان والاستقرار، وهو الشعور الذى ينشده - دوما - كل مخلوق على وجه الأرض.
على جانب آخر تبرز عمليات تجهيز "عمر" وزرعه فى أثنيا دور المخابرات العامة بشكل مختلف لما تم معالجته من قبل على جانب الكوميديا بأداء عذب لكريم عبد العزيز، حيث استطاع سبر أغوار الشخصية من خلال حبه لها فى العمل، بصورة حققت التقمص والاندماج بينه كممثل والشخصية التى تمثلها، خاصة وهو يقودها فى نفس الوقت إلى التمييز بين ماهو عرضى غير هام، وبين ما هو يشكل جوهر الانسان ذاته، فالإحساس بالكراهية من جانبه فى مشهد يسبقه أو يليه إحساس آخر بالحب، يؤكد أننا نقف أمام ممثل يعرف كيف يتدير عواطفه, وكيف يصدرها فى اللحظة المطلوبة دون مبالغة فى العواطف، وإنما بوعى كامل للخصال النفسية والجسمانية والإجتماعية المتأصلة فى الشخصية، انطلاقا من إدراكه بأن أقل قدر من المبالغة فى صوت الممثل سيظهر الممثل لنا متطفلا ً, ومملاً على الشاشة.
ولعل قدرا من ذات الاحترافية يبدو ملحوظا مع النجم "كريم عبد العزيز" بعد أن نجح فى الاختبار الصعب كعميل للمخابرات، وعلى رقة حال الانتاج، وفقر الملابس، وعجز المكياج عن ابتكار وسائل مقنعة للتخفى، فقد اعتمد "كريم" على لغة الجسد، والتعامل معه لا بوصفه جسداً يتحرك، وإنما جسد يفكر وينتج - بحس ذاتى - ليصنع التوازن المنشود مع الروح والواقع، حتى حقق التجسيد الكامل لشخصية العميل "عمر" فى تجلياته المرعبة، وأداه فى إطار الخبرة المكثفة والمتراكمة بداخله كممثل محترف، وهو ماجعله يتفهم جيدا بيئة العمل ويتفاعل معها تفاعلا حساسا وعميقا، وواضح جدا أنه يملك قدرة على الفرز لاصطفاء المفيد وتجنيب غير المفيد بخبرة وحنكة درامية طويلة، كما اتضح فى أداء دوره بشكل منسجم مع الأدوار الأخرى فى نديته لزميله "محمد شاهين"وصراعه غير المتكافئ مع الضابط الاسرئيلي"فادى إبراهيم" بشخصية "داني"، وللإنصاف فإن "كريم" وضع نفسه تحت تصرف المخرج " وائل عبد الله" الذى تفاعل معه بمنطق التقطيع الفنى وضبط سلّم اللقطات وزوايا التصوير، بحيث يستدعى جسد الممثّل وفق لقطات مختلفة الأحجام ووفق ما تقتضيه الرّؤية الإخراجيّة التى وضعته فى أجواء كثيرة يجرى فيها التمثيل بصورة حقيقية، ما جعل"عبد العزيز" يشعرنا أنه فى قلب الواقع المضطرب، فتفاعل بديناميكية أبرزت السمات الشخصية للعميل صاحب الضمير فى مواجهة جبروت رجال المخابرات الإسرائيلية، وأسلاك الأمن الشائكة التى حالت بينه وبين الحقيقة طوال الوقت.
ومن جانبه جاء أداء "شريف منير" لرجل المخابرات دقيقا للغاية رزينا إلى الحد الذى أتقن فن السيطرة على عواطفه، وبحسه الفطرى استطاع وضع يده على التفاصيل الدقيقة للخصال النفسية والجسمانية والاجتماعية المتأصلة لدى رجل المخابرات، كما انعكست فى تجسيده لدوره، ولقد برهن "منير" بحنكته المعروفة على وعى الممثل القدير بحركات جسمه وصوته، حين تماهى مع شخصية "خالد" فى مراحل تدريبه للعميل"عمر" ومتابعته فى "أثنينا"، ولابد للمشاهد أن يتوقف بقدر من التأنى أمام "شريف" الذى أجاد فى دوره، حين أدرك من تلقاء نفسه أن وحدة صوت الممثل ومدى إتساعه وإرتفاعه وانخفاضه هى السبيل الوحيد للتأثير على المشاهد, خاصة أن المؤثرات الصوتية لم تعمل جميعها مع الصور البصرية فى تواز يخلق تجربة مشاهدة خاصة, فقط كان أداؤه بصوته هو العامل الحاسمً فى تفسير المتفرج لأحداث الدراما, بفضل ما تحمله بين جوانحها من إحساس سليم ووجه نوارنى يبرز قيم الوطنية والعدل والحرية والحفاظ على التراب المقدس، ومن ثم نجح فى أن يشعرك بأنك فى قلب الواقع.
وللحقيقة فإن "محمد شاهين" أجاد فى شخصية "سالم" بشكل لم يسبق إليه أداءه من قبل، صحيح أن الواقع الاجتماعى فى الحيّز الدرامى، هو واقع افتراضى، لكنه يشى، وربما يحاكى ليبنى منظوراً مختلفاً لإشكاليات وتناقضات، بما يعنيه من انتباه لشرط إنسانى فى واقع متغير، تماما كما فعل "وائل عبد الله" فى تأسيس "اللحظة الدرامية" المناسبة حين تنفتح على إبداع الثقافة الدرامية وإبداع خصوصيتها، وهو ما تجلى فى جوهر الرسالة التى أرادها السيناريو، والتى تقول فى النهاية: لايصح إلا الصحيح، بحيث يبدو لك أداء "شاهين" عبارة خطاب حركى إيمائى قادر على تفجير طاقات الجسد التعبيرية للوصول إلى ما يشبه حالة التألق، وهو يعتمد فى كثير من الحالات على عدة تيمات من الرموز والإشارات الخاصة به، وربما يراها البعض نوعا من التكرار الذى يلازمه من عمل إلى آخر، لكنى أرى أنه أصبح ممثلا فى أعلى سلم التألق الكوميدى بحس اجتماعى واضح، من خلال تجسيد شخصية "سالم" القادم من طبقة متوسطة، فشل فى حياته داخل مصر، ليستقر به المقام فى أثينا فى قبضة الموساد الإسرائيلى - بمحض إرادته - ليصل "شاهين" فى هذا المسلسل إلى درجة من احترافية صنعت منه ممثلا متميزا، بل إنه طبع فى مخيلة الجمهور صورة ذهنية تضعه فى مصاف الكبار، فقد استطاع أن يضيء بنية الشخصية وإعطاء الأولوية للبصرى على ما هو سمعى أو لغوى، من خلال حركات وإيماءات تخصه وحده دون غيره، فكانت مبالغاته فى جلها ممنهجة، وتكراره للكلمات والحركات والمواقف بحساب شديد، بحيث لاتخلو المشاهد الدرامية المشحونة بالغضب من مواقف كوميديا تقوى على كسر حدة الحزن الدفين، عبر اللفظ والإيحاء الذى يعكس التناقضات الحاصلة فى الأحداث، فضلا عن التهكم والتورية التى تخفى مقصداً آخر غير المقصد الظاهر، بهدف تفجير طاقة الضحك لدى الجمهور، وهو ما اتفق عليه منظرى الكوميديا عليه فى "أن الضحك المنبعث من اللفظ هو عنصر هام لتوليد الضحك لدى المتلقى، والتلاعب بالألفاظ عن طريق الزيادة والنقصان أو بالايماءة"، وقد ساهم فى ذلك كله حالة الانسجام مع كل فريق العمل وعلى رأسهم الفنان المخضرم "عبد الرحيم حسن"، و"كارمن لبس" التى تمتلك هى الأخرى طاقة كوميديا هائلة،على صغر مساحة الدور التى لاتناسب إمكاناتها كممثلة تقترن بالخبرة والدهاء، ولقد ساهمت الموسيقى التصويرية لـ "مودى الإمام" فى زيادة وهج الأحداث إلى حد كبير.