حين يذكر طالب فقير من أوائل الثانوية العامة أنه يتمنى الالتحاق بكلية الطب لكنه يخشى مصاريفها، فهذا يعنى أن خللا موجودا فى منظومة المجتمع، يقود إلى حتمية شعور هذا الطالب وأسرته بفقدان العدالة.
وفى الأسبوع الماضى احتفى الإعلام والبرلمان بالأولى على الثانوية الطالبة «مريم فتح الباب» ابنة البواب التى حصلت على مجموع %99.3، كما احتفلت محافظة أسيوط بابنها الطالب عبدالراضى علام حسن عوض ابن الفلاح الذى يعمل باليومية والحاصل على %99.76، لكنه لم يأتى فى ترتيب الأوائل لتأجيله مادة «الجولوجيا» من العام الماضى بسبب ظروف مرض والده.
احتفلنا بـ«مريم» و«عبدالراضى» لأنهما حققا تفوقهما وتغلبا على الفقر بكل قسوته التى دفعت على ابن ابى طالب رضى الله عنه إلى قوله عبارته الخالدة: «لو كان الفقر رجلا لقتلته»، وتحدثا عن أحوالهما ومعاناتهما بفخر، وتأكدت أصالة الاثنين وعظمتهما وهما يتحدثان عن والديهما بكل فخر ورقى، وفى حديثهما لم ينكرا أن حلمهما هو دراسة الطب وفى نفس الوقت يخافان من المصاريف، وتلك مسألة بقدر ما تبدو فى ظاهرها أنها شكوى فردية، إلا أنها وكما قلنا من قبل: «تعبر عن خلل فادح فى منظومة المجتمع».
هناك خلل أكبر يحتاج إلى مصارحة ومواجهة وهو منظومة الوظائف التى أصبحت حكرا على الأغنياء فقط، ولا يستطيع أبناء الفقراء أن يلتحقوا بها أو حتى مجرد التفكير فيها، وتلك مأساة كبرى أسست لها سنوات سابقة أذلت الفقراء ودللت الأغنياء، وسؤالى المباشر فى ذلك هو: هل هناك ضمان مثلا فى أنه لو ظلت «مريم» وظل «عبدالراضى» ومن فى مثل حالتهما على تفوقهما العلمى بكلية الطب يمكنهما الالتحاق بسلك التدريس الجامعى، أم يظل هذا الأمر حكرا على أبناء الأساتذة فى كليات الطب؟
ولو افترضنا مثلا أن آخرين من المتفوقين درسوا الاقتصاد والعلوم السياسية أملا فى الالتحاق بالسلك الدبلوماسى، فهل سيكون المصير «غير لائق اجتماعيا»؟
سؤالى له سابقة يتم استحضارها دائما كمثل صارخ على الظلم الذى يقع على الطبقات الفقيرة فى الالتحاق بوظائف معينة، ففى عام 2003 اجتاز الشاب «عبدالحميد شتا» كل الامتحانات للالتحاق بوظيفة ملحق تجارى فى الخارجية، وحاز على المركز الأول متفوقا على 43 شخصا، وبالرغم من اسمه ظهر فى كشوف الناجحين إلا أنه اصطدم بـ«غير لائق اجتماعيا»، كان «شتا» ابن فلاح محترم ومجتهد ويربى أولاده بالحلال، غير أن مهنة «فلاح» هناك من ينظر إليها بأنها «غير لائقة».
أقدم «عبدالحميد شتا» على الانتحار وكان الحدث صرخة فى وجه المجتمع وقتها، وتبارى الكل فى الحديث عن المأساة ليس كحالة فردية وفقط وإنما كمرض عام، ومر 14 عاما على تلك المأساة، فهل تغير شىء؟
السؤال ليس دعوة إلى الإحباط، لكنه دعوة للمكاشفة يجب ألا تلهينا الاحتفالات عنها، فإذا كان أولاد الفقراء يحققون التفوق الدراسى هكذا، ويمكنهم تحقيق مزيد من التفوق فلماذا يتم حجب وظائف ما عنهم؟.
ذكرت فى المقالين السابقين مقولة العلامة الدكتور محمود الطناحى: «لولا أولاد الفقراء ماضاع العلم»، وأكررها الآن للتذكير عسى أن نتعظ قبل فوات الآوان.