«أفهم أن الدينَ هو حُسنُ العمل وإتقانُه، وقولُ الصدق، ومحبةُ الناس واحترامُهم. أفهمُ أن الإيمان بالله هو عدمُ الفُحش فى الفعل أو القول، وهو الرفقُ بالضعيف، واحترامُ الكبير، ومراقبة الله فى السر وفى العلن. أفهم أن الدين هو العدلُ وعدمُ الانحياز لإنسانٍ دون إنسان. هو نُصرة المظلوم بالدفاع عنه، ونُصرة الظالم بردّه عن ظلمه. أفهم أن الدين هو النظافةُ فى القول وفى الفعل، مثلما هو فى نظافة البدن والمكان. أفهم أن الدينَ المعاملةُ وعدمُ الإساءة للآخر وسوء الظن به. أن نضع أنفسَنا مكان الناس لندرك كيف يشعرون. نحسُّ آلامهم، فنتجنب تزكيتها، وندرك مكامنَ فرحهم فنسعى إلى ترسيخها».
العبارة السابقة كتبتُها فى مقال قديم، ذكّرنى بها بالأمس صديقى د. ناجى شوقى، بروفيسور الجيولوجى، حينما لمس حزنى على ما صارت عليه مصرُ من مظاهر التديّن الشكلى الذى بدأ يتغوّل بشراسة فى مفاصلنا، لافظًا جوهر رسالتنا السامية فى الأرض كبشر صالحين، مُهدرًا قيم التحضّر الذى يجعلنا كائنات ممتازة نستحقُّ رهانَ الله علينا أمام ملائكته حين قال : «إنى جاعلٌ فى الأرض خليفة».
الشكلانية هى التى دمّرت فى مصر كل شىء جميل. أقصد كل شىء كان جميلا. التهذّب والسمو ونظافة اليد واللسان والقلب واحترام الطريق والخضرة والجمال، واحترام الآخر وتبجيل قيمة المرأة والطفل والمُسّن. السكلانية هى التى تجعل موظفًا يفتح درج مكتبه ليمرّر معاملةً غير قانونية، ثم يفرّ من عمله مبكرًا عن موعد الانصراف القانونى، ثم يلقى بشىء من قمامة فى الطريق، ثم يبصق على حائط، لكنه لا ينسى أن يشترى كتيّب أدعية وأذكار من الباص، ثم يحاول أن يحفظ بعضها ليرددها بصوت عال فى العمل فى اليوم التالى، فيردد الجميع من ورائه: «الله الله، ربنا يزيدك إيمانًا وهدىً». التدين الشكلى هو ذاته الذى جعل مسؤولا يوافق ويسمح وينفذ تلك المهزلة التى تجرى الآن فى محطات مترو الأنفاق، المُسماة بـ: أكشاك لجنة الفتاوى.
مترو الأنفاق ومحطات مترو الأنفاق وأرض مترو الأنفاق، تُسمى وفق القانون: «مرافق عامة»، تخصُّ وتخدم «جميع» و«كل» مواطن مصرى بأمر الدستور. وليس فئةً دون فئة كما يقول عنوان تلك الأكشاك «فتاوى إسلامية». والحقُّ أن ذاك العنوان، فضلا عما سبق، فإنه يفعل شيئًا شديد الخطورة. هو تكريس «الفرز الطائفى» فى المجتمع. تذكير المواطنين كل لحظة أن هناك فريقين وعنصريين على ساحة الصراع. أن هناك دائمًا «آخر» مختلف، ينتمى لغير ما أنتمى إليه، ولابد أن يعلو يومًا بعد يوم ما بينى وبينه من جُدر. وما تفعله الدولة اليوم هى تكريس ذلك الجدار العازل بين المسلم والمسيحى، بدلا من تكريس قيم الذوبان المواطَنى بين المواطنين. بينما، كان أحوج ما يحتاج إليه المصريون فى محطات مترو الأنفاق، وفى كل مكان بمصر، هو وجود شىء يذكّرهم بأنهم ينتمون بالفعل إلى وطن. والوطن «صخرة» نرمى عند سفحها همومنا. شىء يُذكرهم بأنهم يستظلون بمظلة تحميهم من صعاب الأيام. نحتاج إلى أكشاك تقدم الكتب الفكرية المجانية لراكبى القطارات لكى يتصفحوها أثناء رحلاتهم، ثم يعيدوها إلى تلك الأكشاك. نحتاج إلى أكشاك موسيقى يعزف فيها العازفون ليرتقوا بأرواح الناس فيلفظون الدنايا والسخافات. نحتاج إلى أكشاك إسعاف مجهزة بكامل الإسعافات الأولية لإنقاذ المتوعكين. نحتاج أكشاك جميلة يرتاح فيها مُسنٌّ مجهد، أو أمٌّ تود إرضاع طفلها. نحتاج إلى دوارت مياة نظيفة لا نخجل من دخولها. نحتاج إلى كل ما نراه فى محطات المترو بأوروبا وأمريكا والشرق الأقصى، تلك الدول التى تحبُّ أبناءها وتعمل على إسعادهم، وليس على تفكيك أواصرهم وتشتيت وحدتهم بتلك الأكشاك العنصرية.
أكشاك الفتوى تلك فى محطات مترو الأنفاق دفع ثمنَها المسيحىُّ والمسلم من ضرائب المصريين الكادحين الذين لم يعودوا قادرين على مجرد الحياة وإقامة الأوَد. فهل وافق الدافعون أموالهم على مشتريات طائفية عنصرية من كدّهم ونزف جيوبهم وقوت أولادهم؟ كثيرًا ما كتبنا عن جامعة الأزهر التى تُموَّل منذ دهور بأموال ضرائب المسلمين والمسيحيين على السواء، لكنها مُحرّمٌ دخولها على الطالب المسيحى! والآن يتكرر ذلك الانتهاك للدستور على نحو أشد عنفًا فى محطات مترو الأنفاق، الذى يملكه الشعبُ بكل طوائفه، إذ يتم اختراقه واحتلاله بتعدٍّ سافر على الدستور المصرى 2014، الذى يساوى بين حقوق المواطنين المصريين كافة. تلك الأكشاك ليس لها إلا هدفٌ واحد هو توسيع الفجوة بين المسلم والمسيحى وتعميق شعور المسيحى بالغربة فى وطنه: مصر.
إقامة تلك الأكشاك الهزلية هو لونٌ آثم ومراهق من تكريس الفرز العقدى والتمييز الطائفى البغيض. وكالعادة، تم بليلٍ، وفى فى غفلة منّا ورغم أنوفنا، بقوة المدّ السلفى الوهابى الذى يزداد سيفُه توغلا فى خصر مصر جاهدًا فى تغيير ملامح وجهها لتغدو بلدًا لا نعرفها، ولا تشبهنا. والمدهش والمحزن أن يحدث هذا بعد ثورتنا ضد الإخوان! وكأن كفاحنا ضدهم لم يأتِ إلا بمزيد من التغوّل السلفى الإقصائى! وبعد أكشاك الفتاوى فى «غزوة المترو»، سنكون فى انتظار الخطوة الوهابية الحتمية التالية، وهى تجول «المُطوّعين» من رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فى الطرقات ليضربوا الرجال والنساء بالعصا والسياط، لنتحوّل جميعًا إلى جوارى وعبيد فى مجتمع لا يحترم الدستور، ويدهس على الحريات.
مصرُ المدنية ترفض أن تتحول إلى إمارة وهابية. مصرُ المواطَنة تلفظ عنصريتكم. مصر التعددية على وشك الانفجار فى وجوهكم.