يخرجون ويدخلون بالآلاف يوميا من وإلى محطات المترو، بينهم مئات الشباب والمراهقين تمتلئ رؤوسهم بالأسئلة التى دائما ما تلح على هذه السن، تبحث عن إجابات، فيجد أصحاب النوايا الخبيثة فى هذه الرؤوس صيدا ثمينا ويحاولون ملأها بإجابات تخدم أغراضهم، فتزيد أعداد المتطرفين وأصحاب الفكر المتشدد
آلاف النساء والرجال .. الآباء والأمهات .. الزوجات والأزواج ، يحمل كل منهم العديد من التساؤلات، حول الميراث، الختان ، أحكام الطلاق والزواج والمعاملات ، يرغب أحدهم فى كتابة جزء من ميراثه لأحد أبنائه ، أو يحتار هل يختن بناته أم لا بعدما سمع فتاوى المتشددين والسلفيين التى تتعارض مع أحكام العلم والإسلام الوسطى ، ليس فى قضية الختان فحسب لكن فى كل القضايا والمعاملات بما يعكر حياة الناس ويبث الفتن ، يكفرون شركاء الوطن ويحرمون تهنئتهم ، بل ويكفرون الجيش والشرطة والدولة ، ويحرمون الموسيقى والغناء وينظرون للمرأة على أنها وعاء للمتعة ليس لها حقوق وعليها فقط أن تسجد لزوجها ، وغير ذلك من فتاوى تنشر التطرف وتخلق بيئة خصبة للإرهاب ، ولا يدع المتطرفون والجماعات الإرهابية فرصة ولا وسيلة إلا ويحاولون من خلالها الوصول إلى الناس بهذا الفكر وتلك الفتاوى التى تهدد أمن الوطن وتتعارض مع صحيح الإسلام .
ورغم خطورة هذه الأفكار والفتاوى والفكر المتطرف ومطالبة الجميع بالتصدى لهذا الفكر ، انطلقت موجات الانتقادات والسخرية والغضب لمحاولة الأزهر التقرب والوصول للمواطنين ، والإجابة عن تساؤلاتهم بما يتوافق مع الإسلام الوسطى من خلال تجربة جديدة المسماة "كشك الفتوى" بمحطات مترو الأنفاق، والتى بدأت بمحطة مترو الشهداء، وما إن بدأت حتى انهالت الانتقادات وسيل السخرية عليها، قبل الانتظار حتى تظهر نتائجها، ودون النظر إلى حاجة الناس وإقبالهم عليها، ودون أن تشمل هذه الانتقادات الحديث عن مدى قدرة وخبرة العلماء الذين يتلقون أسئلة المواطنين فى الرد والإقناع.
انهالت الانتقادات على فكرة وجود هذه الأكشاك من الأساس ، والغريب أن تنطلق سهام الانتقادات من المثقفين والمتطرفين على حد سواء، وإذا كان هجوم المتطرفين والسلفيين وأصحاب الفكر المتشدد على هذه التجربة ورغبتهم فى وأدها فى مهدها أمرا مفهوما ، فهم لا يريدون أن يعلو أى صوت فوق صوت الفكر المتطرف الذى يروجونه ويرون فى هذه المقرات التابعة للأزهر خطرا على تغلغل فكرهم فى عقول الناس، فمن غير المفهوم أن يهاجم المثقفون هذه التجربة بزعم أن وجود مقر للفتوى بمحطة المترو يتعارض مع مفهوم الدولة المدنية.
بل ادعى البعض أنها قد تكون مصدرا للفكر المتطرف متناسين أن الأزهر هو الذى أقام هذه المقرات وأن علماءه هم من يجيبون عن أسئلة المواطنين بما يتوافق مع تعاليم وأحكام الإسلام الوسطى البعيد عن التطرف والتشدد ، وأراد هؤلاء أن يضعوا الأزهر الوسطى فى كفة واحدة مع الجماعات المتطرفة وأصحاب الفكر المتشدد وفى هذا ظلم كبير ، كما أنه يحمل استعلاء على حاجة معظم المواطنين فى الحصول على إجابات لما يدور فى أذهانهم من أسئلة حول المعاملات اليومية والفتاوى الدينية .
أليس من الممكن أن تمنع هذه الفتاوى والاستشارات الدينية العديد من الجرائم إذا ما نجحت هذه التجربة فى تحقيق أهدافها، خاصة أنه قد لا يتاح للكثير من البسطاء التعامل مع المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعى الخاصة بدار الإفتاء ولجنة الفتوى بالأزهر لطرح أسئلتهم ، كما أنه قد لا يتاح للكثيرين الذهاب إلى دار الإفتاء أو مشيخة الأزهر للحصول على الفتوى خاصة المراهقين والشباب، بينما تصل إليهم فتاوى المتطرفين أينما كانوا ، ويجتهد أصحاب الفكر المتشدد فى الوصول إلى عقول الشباب بكل السبل، وفى الوقت الذى أكدت المؤشرات أنه ورد إلى مقر الفتوى بالمترو العديد من أسئلة الشباب حول الإلحاد والانتحار .
لماذا يدعى البعض أن وجود مقر للفتوى بالمترو من قبيل العنصرية والتمييز بين المسلمين والمسيحيين ، رغم أن نشر الدين الوسطى يفيد كل أبناء الوطن ويحميهم من شرور التطرف وجرائمه، وينشر السماحة والمحبة ويقضى على الأفكار الشاذة والمتطرفة فى مهدها ، فلماذا لا نمنح هذه التجربة الفرصة كى تكتمل ثم نحكم عليها ؟
يتباكى البعض ويشيرون إلى أنه يجب استبدال كشك الفتوى بأكشاك للموسيقى أو مكتبات ، رغم أن وجود مقرات للفتوى فى محطات المترو لا يتعارض مع وجود أكشاك للموسيقى ومكتبات ومراكز صحية تقدم خدماتها للمواطنين سواء بالكشف عن أمراض السكر والضغط وفيروس سى أو تقديم إسعافات أولية وإرشادات صحية لرواد المترو .
الكثير من الخدمات يمكن تقديمها للمواطن فى محطات المترو ، ولا يتعارض كل منها مع الآخر ، بل يمكن استغلال هذه الوسيلة التى يستخدمها ما لا يقل عن 2 مليون مواطن يوميا فى نشر الثقافة والفن والدين الوسطى والوعى الصحى والبيئى .
وقد يفتح كشك الفتوى بالمترو الباب أمام استغلال هذه الوسيلة لتحقيق أكبر استفادة للمواطنين ، أو نعيد النظر فى أفكار تم طرحها من قبل ولم تلق اهتماما ، ومنها ما طرحه الدكتور محمد أبو الفضل بدران رئيس هيئة قصور الثقافة الأسبق ، الذى سبق وتقدم لإدارة مترو الأنفاق بفكرة مشروع لإنشاء مكتبات لإعارة الكتب ، تقوم على أن يستعير المواطن الكتاب ليقرأه ، مقابل دفع 5 جنيهات، يستردها إذا أعاد الكتاب ، ويمكن للشخص أن يستبدل الكتاب من أى محطة فى أى مكان ، كما أن له أن يسترد نقوده من أى محطة أيضا ، ويمكن للشخص أن يحتفظ بالكتاب إذا أعجبه مقابل ألا يسترد الـ5 جنيهات ، ويقوم هذا المشروع على طرح مليون كتاب فى هذه المكتبات ، بمبدأ "الكتاب الدائر"، فلو قرأه عشرة أشخاص فستكون النتيجة أن المليون كتاب استفاد منها 10 ملايين قارئ فى العام الواحد.
لا تتعاملوا باستعلاء مع احتياجات البسطاء ولا تستهينوا بها، واتركوا التجربة لتكتمل ثم احكموا عليها، ولا تعدموا الأفكار والتجارب الجديدة فى مهدها واجعلوا من كل فكرة مفتاحا لأفكار أخرى ، واعلموا أننا إذا أغلقنا نافذة للفكر الوسطى فتحنا ألف باب لأصحاب الفكر المتطرف.