كنا قد تحدثتا فى مقال سابق عن حجج العقليين والمؤمنين فى القوى الأعلى، وما وراء الإنسان، واليوم نرد عليها فى بعض نواحيها من حيث الشكل والمضمون والتفسيرات العلمية والكونية.
ونبدأ بالرد على العقليين قولهم بأن علم الإنسان يزداد، حتى يكاد يبلغ كل مشاكل الكون فيجد لها حلولاً ، هذا فى حد ذاته لا يدل على أن الانسان أعلى ما فى الكون، وإنما يدل على أن علمه ما هو أدنى منه سيبلغ حد الكمال يوم من الأيام ( إن أراد الله سبحانه وتعالى) .
وليس فى ذلك غرابة فكل طبقة من القوانين والأشياء تستطيع أن تعلم كل ما يكون أدنى ليس شيئاً اختص به الإنسان وحده دون الكائنات الأخرى. وأن علمه التام بما هو أدنى منه لا يقوم دليلاً على أنه يستطيع أن يعلم شيئاً عما هو أعلى منه، فهو ليس إلا مرحلة من مراحل التصاعد التركيبى للكائنات وعلمه ينحصر فيما دونه وليس فى هذا ما يدل على أنه أعلى ما فى الكون (كما يدعون) بل هو دليل على أنه أعلى ما يعرف هو من الكائنات فقط لا غير.
وعلى ذلك نرد عليهم قولهم إننا لم نعرف بحواسنا شيئا يعلو الإنسان بأن كل كائن لا يستطيع بقوانينه أن يفهم ما هو أعلى منه. وكل ما يستطيعه هو أن يعلم بوجوده، وذلك بالتفكير فى أثر هذا القانون الأعلى فى حياته.
أما أن وجود الله فرض عندهم لا داعى له لفهم الكون، فمردود عليه بأن المسألة ليست مسألة فرض بل مسألة حقيقة واقعية (محسوسة وملموسة) ، فإن الحيوان الذى يذبح قرباناً لآلهة البدائيين ليس فى حاجة إلى فرض وجود الخرافات مثلاً لفهم ما يدفع الإنسان إلى ذبحه، وهى مع ذلك موجودة.
أما عن قول المؤمنين إن النفس والضمير أمور لا يمكن فهمها من تركيب الإنسان، فخير رد عليه بأنه من الممكن تفسير ذلك مادياً وهو ما قدمه بعض العلماء فى العديد من الدراسات، ولم تكن ناجحة تماماً فهى على الأقل تدل على أن ذلك غير مستحيل.وهذا يكفى لنقض هذه الحجة القوية.
وقولهم إن خضوع الإنسان للقوانين الأدنى يدل على عجزه ، مردود عليه بأن هذه سُنة الكون وأنه لا يطعن فى رقى أى قانون أن يتقيد بما هو أدنى منه.
وفى النهاية، إنما الذى يؤيد الحزم بأن هناك شيئاً أعلى من الإنسان (وهو الله سبحانه) هو أنه ليس المتحكم الوحيد فى الحياة بأكملها أو حتى حياته الشخصية وأن هذه الحياة تتأثر بما لا يفهمه ولا يعرف له كنهتها وبما هو أعلى منه. مما سبق أن سميناه "القضاء والقدر" ، وهذا هو البرهان العلمى الوحيد على أن وراء الانسان فجوة ، وأن وراء تلك الفجوة قانونا أعلى (وضعه المولى عز وجل).
* أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة .