نهارَ الجمعة. بعدما رويتُ أشجارَ شرفتى ونبتاتِها وزهورَها، وملأتُ الآنيةَ الفخارية والزجاجية بالحبوب والماء، حتى تأكل عصافيرُ الله الطليقةُ فى رحاب سمائه، وتشرب، جلستُ إلى مكتبى لأضع رؤوس أفكار محاضرتى التى سألقيها غدًا السبت فى صالونى الشهرى بمسرح «مكتبة مصر الجديدة»، الذى يتجدد فى السبت الأخير من كل شهر. فجأة، رن هاتفى ووجدت صحفيًّا يسألنى تصريحًا لجريدته حول خبر يتكلم عن إنشاء مكتبة صغيرة متنقلة بحديقة الحيوان بالجيزة. ملأ الفرحُ قلبى، وفجأة وخزنى نصلٌ حادٌّ حين سمعت الصحفى يقول: «لحظة يا أستاذة، المكتبة بها كتب وهابية تحثّ الناس على الجهاد وقتال الشيعة واليهود والنصارى! ما تعليقك؟» وهكذا، لا تدخّر قوى الإرهاب جهدًا ولا تُضيّع وقتًا فى تحقيق هدفها فى مصر باستلاب العقول وإطفاء كل وميض متبقٍ فى عقول أبنائها. اليوم تبدأ غزوة حديقة الحيوان المصرية بالجيزة، بعد إتمام غزوة مترو الأنفاق، التى حاربناها بكل قوانا. وعليك أيها القارئ أن تلاحظ أنهم يشتغلون على فئتين. الشباب، الذين هم عماد روّاد مترو الأنفاق، والأطفال، الذين هم زوار حديقة الحيوان.
يوم نشر هذا المقال، الأحد، سأكون قد ألقيت أمس محاضرتى فى صالونى، وموضوعها ليس بعيدًا عن غزوات الفكر الإرهابى وإشاعة ثقافة التباغض والتكفير والاقتتال بين جنبات مصر. ما أصل ومنشأ وأسباب تزييف الحقائق التاريخية، وتكريس أوهام وخرافات كرّسها رجالٌ كتبوا التاريخ على هواهم بعيدًا عن الواقع والحقيقة؟ الإجابة تكمن فى أحد فصول كتاب «الأورجانون الجديد» الذى كتبه المفكر الإنجليزى « فرنسيس بيكون» فى القرن السادس عشر، ليكون جزءًا من موسوعة المعارف التى ودّ بيكون وضع بذرتها الأولى، على أن يستكملها بعده مفكرون وفلاسفة وعلماء فى عصور تالية، وأعطى الموسوعة عنوان: «الإحياء الكبير».
ويُعدّ «الأورجانون الجديد» سخرية شاملة من فكر فلاسفة الإغريق مثل أفلاطون وأرسطو اللذين كان يراهما بيكون، وفق قوله: «اثنين من العجائز العاطلين يخاطبان حشدًا من الشباب الجاهل»! إذ رأى بيكون أن فلاسفة الإغريق، ورجال كهنوت القرون الوسطى مثل توما الإكوينى، وغيرهم، لم يقدموا للعالم أى فائدة عملية تسهم فى تطور الإنسان ليعيش حياة أكثر رغدًا وعلمًا. هنا يصلُ الكلام إلى «الأصنام الأربعة» التى رأى بيكون أنها تعوّق العقل الإنسانى، بوجه عام، عن مشارفة الحقيقة وتسهم فى تزييف التاريخ.
حينما فكّر فرنسيس بيكون، أحد مؤسسى الفكر العلمى ابن القرن السادس عشر، فى المعوقات الأربعة التى تُباعد بين الإنسان والحقيقة، كان كأنما يفكر فى أزمة الإنسان العربى، لا الأوروبى، وكان كأنما يفكر فى اللحظة الراهنة، وليس لحظة التعافى الأوروبى من سطوة الهيمنة الدينية مع مشارف عصر النهضة الأوروبى بعد القرون الوسطى العشرة المظلمة. قبل مولده بقليل كانت إنجلترا قد نزعت عن جسدها النصالَ الغائرة التى غرسها رجال الدين فى جسد المجتمع الأوروبى. وبدأت إنجلترا تصطبغ بصبغة العلم والمدنية، وراحت تزرع فى المناصب السيادية العليا رجالا علمانيين تكنوقراط، بدلا من رجال الدين الذين تأبدوا فى تلك المناصب قرونًا طوالا. فعمّ، بعدئذ نظامٌ جديد يتضاءل فيه سلطانُ الكنيسة، وتتشاسع السلطات المدنية والعلمانية. ثار بيكون منذ صباه على الغيبيات ورفض منطق أرسطو الميتافيزيقى ولاهوت القديس توما الإكوينى اللذين رأى فيهما فلسفة لفظية عقيمة وغير عملية، لا تقدم أى عون للإنسان فى رحلة كفاحه المرير فى محاولة السيطرة على الطبيعة وتحسين وضعه المعيشىّ والنهوض بحياته وتعمير الأرض. فراح يدعو إلى فلسفة جديدة قائمة على العلم والعقل، تُراجع الإرث القديم وتنقيه من المتهافت والركيك والناتئ عن العقلانية. وكان كتابه «الأورجانون الجديد»، «أداة» المنطق العلمى فى تفسير ظواهر الكون والطبيعة. وفيه ينقضُّ على فلاسفة الإغريق وبالأخص أرسطو، فيهدم منهجه الميتافيزيقى الغيبى الذى وضعه فى مجموعة كتب سماها «الأورجانون»، وهى كلمة إغريقية تعنى «الآلة»، أو «الأداة». وما حربه ضد أولئك الفلاسفة العظام، الذين رحلوا فى القرن الرابع قبل الميلاد، إلا لأنه رأى أن فكرهم التغيبى مازال مسيطرًا على اللحظة الراهنة، آنذاك. فما كانت حربه إذن ضد أموات، بل ضد أحياء ذوى سلطان ونفوذ على المجتمع الراهن، وقتذاك، أما مشروع بيكون الأكبر، فكان الموسوعة المحترمة الضخمة التى أعطاها اسم «الإحياء الأعظم»، ومات دون أن يكملها، وقد أعلن بنفسه أنه عمل فكرى علمى وإنسانىّ هائل لا يقوم به مفكر واحد، ولا جيلٌ واحد من زمن واحد، بل يستكمله بدأب وتريّث مفكرون عديدون فى أزمنة مختلفة.
فى كتاب «الأورجانون الجديد»، فنّد بيكون أصنامًا أربعة، أو أوهامًا أربعة، يجب على العقل الجمعى العالمى التخلص منها حتى يشارف تخوم الحقيقة. تلك الأصنام ترسّخت فى العقلية الإنسانية على مر العصور، فزرعت فى عقولنا جميعًا مجموعة من الأوهام والخرافات والتقاليد الفاسدة التى تباعد بيننا وبين جوهر العقل الصافى ومعدنه الأصيل الذى خلقه الُله فينا لنصل به إلى الحقيقة.
وهذا ما سنطرحه الأسبوع المقبل بإذن الله.