تثبيت أركان الدولة المصرية معناه أن نحافظ عليها، وندرأ عنها الخطر، وندرك أن المؤامرة الكبرى مازالت تستهدفها، وتريد النيل منها ومن تماسك شعبها، ومن لا يصدق أو يزعم أنها فزاعة سياسية، عليه أن يسترجع شريط الأحداث بعد 25 يناير، فبعد تحقيق شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، اتجهت معاول الهدم إلى إسقاط الدولة نفسها، وضرب مؤسساتها وتخريب مواردها، وركزت على محاور تؤدى إلى الوصول إلى الدولة الفاشلة.
هل نسينا المظاهرات المسلحة فوق الكبارى، وإطلاق الرصاص والمولوتوف والخرطوش، وأعضاء الجماعة الإرهابية، وهم يفرضون سيطرتهم وعضلاتهم على الخلق، ويحتلون المساجد ويحاصرون مرافق البلاد الحيوية، ويمنعون القضاة من دخول المحكمة الدستورية، ويعتدون على الإعلاميين والضيوف فى مدينة الإنتاج الإعلامى؟ هل نسينا حازم صلاح أبو إسماعيل والبلتاجى وصفوت حجازى، وباقى طابور الإرهابيين الذين أخرجهم مرسى من السجون، وملأ بهم قصر الحكم والمناسبات الوطنية والتشريفات والسفريات؟ وهل نسينا أبوالفتوح و6 إبريل والاشتراكيين الثوريين؟
أولا: كان الهدف إسقاط الدولة، وتصعيد حالة الفوضى والشلل والوصول بالأوضاع الأمنية إلى النقطة صفر، فالدولة الفاشلة هى التى تتولى أمن مواطنيها لجان شعبية، حتى لو حسنت نواياها، فقد اندس فيها الفتوات والبلطجية وقطاع الطرق، ينظمون المرور ويحتلون الميادين، واستفحلت حوادث الخطف والاغتصاب وسرقات السيارات، والأكثر خطورة هو ظهور العدالة العشوائية، بالقبض على المواطنين وزعم ارتكابهم جرائم، وتنفيذ العقوبة فيهم فى الشوارع بطرق غوغائية.
ثانيا: السعى إلى استبدال مؤسسات الدولة بكيانات بديلة، وتلقى جهاز الشرطة أصعب الضربات، من الدعوات الكاذبة إلى هيكلته بهدف تصفيته، إلى ظهور الضباط الملتحين لأخونة الأمن، ناهيك عن التنكيل بجهاز أمن الدولة، وضرب جهاز معلومات الدولة ومحو ذاكرة الأمن، وكانت عمليات حرق أقسام الشرطة، إشارات البدء لاستكمال مسلسل الفوضى، وتوصيل رسالة للداخل والخارج بأن الدولة غير قادرة على حماية مواطنيها.
ثالثا: محاولة تمزيق النسيج الوطنى، وإشعال فتن دينية مع الأقباط شركاء الوطن، وتأجيج صراعات مذهبية بين أبناء الدين الواحد، والحمد لله أن الناس أنفسهم اكتشفوا خطورة العبث بالأديان، وأن البلاد إذا وقعت فى أتونه، فلن تقدر على إطفاء الحرائق ولو بعد عشرات السنين، وتجلت عظمة المصريين فى إعلاء الهوية الوطنية، والاحتماء بالمخزون الاستراتيجى للتعايش الهادئ، تحت مظلة الدولة التى تحمى الجميع، ولا تفرق بين مواطنيها.
رابعا: إضعاف قدرة الدولة الاقتصادية، بتشجيع الإضرابات والاعتصامات، ووقف العمل والإنتاج، وتكثيف المطالب الفئوية، أدت إلى الفوضى وغلق المصانع وهروب الاستثمارات وزيادة معدلات البطالة، ووصول معدلات النمو إلى الصفر، وتجريف احتياطى البنك المركزى من العملات الأجنبية، حتى تنعدم قدرة الدولة على الاستيراد، والاعتماد على المنح والمساعدات والقروض، والوقوع فى مصيدة الإفلاس ومد اليد للدول المانحة.
كان أهل الشر على يقين بأن مخططهم لن ينجح فى هدم مصر، إلا إذا استمرت سياسة إضعاف الدولة، ولعبت الجماعة الإرهابية دورا مخربا، مستخدمة سياسة الأرض المحروقة، للوصول إلى الحكم والاستمرار فيه، وكان منهجها: «فلنركب العربة مع الشيطان حتى نصل إلى السلطة، وبعدها نقفز من العربة ونحرقها بمن فيها»، وابتلع الطعم السام جماعات من النشطاء والسياسيين والإعلاميين، رقصوا على أدخنة الحرائق وروجوا للباطل، وساهموا فى مخطط إفشال الدولة.
مصر عادت لأن الدولة القوية عادت، ومن لا يرى ذلك فهو مصاب بانعدام الرؤية، والقوة لا تعنى أدوات الردع، والقوات والجيش والشرطة والدبابات والطائرات، ولكنها هيبة الدولة واحترامها والإذعان لقوانينها، وأن يشعر الجميع بأن القانون هو السيد والحكم، وليس إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وفى قضية اغتصاب أراضى الدولة- مثلا- كانت الكلمة العليا للأقوياء، وكانت الحدود تقام على الضعفاء، والآن انعدل الميزان، وأصبحنا على مشارف مرحلة استعادة الحقوق.
ينقصنا فقط استعادة قوة الدولة الناعمة، وإيقاظ الثقافة والعلوم والفنون والآداب، التى كانت تسرى فى روح الأمة وتلهمها بالخيال وتسلحها بالحماس، وانتصرنا فى معارك كثيرة بالقوة الناعمة قبل الخشنة، وكانت سلاحنا الفعال فى الهزائم والانكسارات، وهل نسينا الحماس الوطنى المتدفق كالنهر بعد هزيمة 67، فارتفعت الروح المعنوية إلى ذروتها «رغم الجرح ومر الزاد وعاشت مصر»، ورغم المحنة لم نر فى بلادنا لصا يسرق أو جشعا يرفع الأسعار أو مغتصبا يتخفى بالظلام.
نشتاق لاستعادة القوة المصرية الناعمة، ومن يملأ فراغ طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ، وعبدالوهاب وأم كلثوم والسنباطى، والسينما والمسرح، ونجومنا العظام الذى كان عددهم يفوق عدد سكان إمارة الشر، نشتاق للهجتنا المصرية الجميلة، التى تحالف ضدها أشقاء فى الخارج ومتآمرون فى الداخل، ونجحوا فى تجريد كثير من المصريين من هويتهم الثقافية، التى هى حجر الزاوية للهوية الوطنية، وجرجروا فى كهوفهم شبابا يفجرون أنفسهم فى أبناء وطنهم، ويقتلون الأبرياء ويعتبرون الشعب هم الأعداء، ومسحوا عقولهم من أفكار حب الوطن، وملؤها بالألغام والديناميت والمتفجرات.
هوية الوطن هى السياج القوى الآمن، الذى نحتمى به فى الانتصارات والانكسارات، والأفراح والأحزان، وقديما قالوا: إن المصريين فى المحن يصبحون روحا واحدة فى جسد واحد، فلا تجد نشازا ولا شذوذا ولا دعاة للفرقة والتشرذم والتناحر، وقوة الوطن تكمن فى الحفاظ على هذه الثوابت وتعظيمها وإعلائها.. مصر عادت وعودتها ضربة قاصمة تؤرق مضاجع المتربصين بها والكارهين لتعافيها.