من الظواهر المهمة فى سياق العلاقات الدولية بعد الحادى عشر من سبتمبر ظاهرة الفاعلين من غير الدول، والتى تشمل الشركات العالمية النشاط، والمنظمات الدولية والإقليمية، وشبكات المنظمات الأهلية غير الحكومية العابرة للحدود، وبعض هؤلاء الفاعلين يملكون من مصادر القوة والتأثير ما يفوق ما لدى بعض الدول، بل ومجموعة من الدول، وأكثر من هذا فإن بعضهم يستطيع أن يؤثر فى الأوضاع الداخلية للدول، من خلال ما يتخذه من قرارات، وما يتبعه من سياسات لإدارة وتشغيل الشركة أو المؤسسة التى يديرها، وكلها أمور خارج نطاق السيطرة المباشرة للدول، وهو ما أكدته الدراسة التى حملت عنوان «اتجاهات العلاقات الدولية بعد أحداث سبتمبر» للباحث محمد ضياء الدين. وفى هذا الإطار يمكن أن نشير إلى ازدياد دور المنظمات الدولية والمتخصصة والإقليمية فى نطاق التفاعلات الدولية المعاصرة، سواء فى مجال حل المنازعات الدولية أو فى نطاق محاولة إلزام الدول بالقواعد القانونية الدولية المنظمة لأنشطة معينة، أو فى إطار محاولة بعض الدول الكبرى فرض قيود أو عقوبات على دول معينة.
الحقيقة أن بعض الدول الكبرى تسىء استخدام بعض هذه المنظمات، من خلال ممارسة الضغوط الرامية إلى توجيهها وجهة معينة بعيدة عن اعتبارات وقواعد القانون الدولى، وأحكام الشرعية الدولية، إلا أن اتساع نطاق دور هذه المنظمات بحد ذاته له آثاره التراكمية المهمة بالنسبة لإدارة العلاقات بين الدول وتسييرها.
ظاهرة الاعتماد المتبادل: تقوم ظاهرة الاعتماد المتبادل على أساس أن ازدياد التداخل والتشابك بين مجالات الحياة المختلفة، والناتج عن التطورات التكنولوجية التى شهدها العالم، خاصة فى مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، قد أدى إلى اتساع نطاق علاقات التأثير والتأثر بين دول العالم، بحيث إن ما يحدث فى أى مكان فى العالم لا بد أن يؤثر فى باقى دول العالم بأشكال ودرجات تختلف وتتفاوت من دولة إلى دولة أخرى، ولكن فى المحصلة النهائية لا بد أن يكون هناك نوع من التأثير، ويترتب على ذلك أنه على كل دولة أن تتابع ما يحدث فى العالم من تطورات وتغيرات لتتعرف على الاحتمالات المختلفة للتأثيرات التى يمكن أن تتعرض لها نتيجة لهذه التطورات والتغيرات، ولتحدد السياسات والأساليب والوسائل الملائمة للتعامل معها، بما يحقق لها أكبر قدر ممكن من مصالحها، ويجنبها إلى أقصى حد ممكن المخاطر الناتجة عنها.
فى الواقع فإن ظاهرة الاعتماد المتبادل هى الظاهرة الأساسية الحاكمة لمعظم التفاعلات بين الدول فى الواقع المعاصر، بل ونستطيع القول إنه يمكن الاستناد إليها فى تفسير العديد من المواقف والأحداث الدولية المعاصرة، التى قد تبدو كأنها غير منطقية بالمعايير التقليدية للعلاقات الدولية، كما أن هذه الظاهرة تمتد لتشمل جميع جوانب الحياة الإنسانية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وبالتالى تتعدد الآثار الناتجة عنها، وتتداخل بشكل غير مسبوق، الأمر الذى لا بد أن يكون له تأثيره على واقع العلاقات الدولية المعاصرة، أفقيًا بمعنى الاتساع المستمر لنطاقها، ورأسيًا بمعنى الازدياد المستمر والمكثف للتفاعل بين الأطراف الفاعلة فى سياق هذه العلاقات.
الأنشطة العابرة لحدود الدول: يزخر الواقع السياسى المعاصر بالأنشطة العابرة لحدود الدول، والتى تتسم بأنها خارج نطاق السيطرة الفعلية لسلطات هذه الدول، وتشمل هذه الأنشطة أنشطة اقتصادية وسياسية وإعلامية وثقافية ومعلوماتية، كما أن بعض هذه الأنشطة غير مشروع، كالجريمة المنظمة، وتجارة المخدرات والسلاح، وغسل الأموال، ودفن النفايات، وغيرها من هذه الأنشطة التى تمثل فى واقع الأمر تحديًا لسلطات الدول، كما أنها تعد أحد مصادر النزاعات المعاصرة فى العلاقات الدولية، إلا أن الملاحظة الجديرة بالاهتمام تتمثل فى أنه يصعب التوصل إلى حلول لمثل هذا النوع من النزاعات دون التوصل إلى آليات للتعاون الدولى بشأنها.
ازدياد الوزن النسبى للعوامل الاقتصادية فى نطاق العلاقات الدولية المعاصرة: كانت العوامل الاقتصادية من العوامل المهمة المؤثرة على العلاقات الدولية على مدى التاريخ، إلا أن الجديد فى هذا الشأن هو ازدياد الوزن النسبى لهذه العوامل فى سياق العلاقات الدولية المعاصرة بدرجة واضحة، وبشكل غير مسبوق، بحيث يصعب تحليل التفاعلات بين الدول فى الواقع المعاصر، سواء كانت تعاونية أو صراعية، دون الأخذ فى الاعتبار الأبعاد والعوامل الاقتصادية المحركة لها والمؤثرة فيها، بل إن بعض الدراسات تتحدث اليوم عن دبلوماسية رجال الأعمال، بوصفها إحدى الأدوات المهمة فى إدارة العلاقات بين الدول، كما يمكن أن نشير فى هذا الصدد إلى ما يعرف بدبلوماسية التنمية، التى تدور فى نطاق النشاط الخارجى للدول، من أجل جذب الاستثمارات الخارجية والتكنولوجيا المتطورة، ونظم الإدارة والتشغيل الحديثة إلى الاقتصادات الوطنية، والسعى المستمر لدول العالم المختلفة من أجل زيادة قدراتها التنافسية، وتوظيف ما تتمتع به من مزايا نسبية فى المجالات المختلفة.
ويمتد مجال تأثير العوامل الاقتصادية فى العلاقات الدولية المعاصرة إلى بعض المجالات التى كانت تعد من صميم الاختصاص الداخلى للدول، فعلى سبيل المثال تتطلب العلاقات الدولية الاقتصادية التزام دول العالم بوضع مجموعة معينة من التشريعات، تتضمن قواعد وأحكامًا قانونية نمطية أو شبه مشتركة بين دول العالم، ونشير فى هذا الشأن إلى النماذج التى وضعتها منظمة التجارة العالمية للتشريعات الاقتصادية التى يتعين على الدول أن تضعها لتنظيم الأنشطة الاقتصادية والتجارية المختلفة فى إطار التزامها باتفاقية حرية التجارة العالمية.. وللحديث بقية.