أثار مقالى السابق عن موت الصحافة الورقية وضرورة الاستعداد لهذه المرحلة ردود أفعال مختلفة.. رحب البعض، بينما اعترض آخرون، وعاتبنى بعض الأصدقاء والزملاء على نظرتى التشاؤمية، من وجهة نظرهم، لمستقبل الورقى مقابل الرقمى، وأنا شخصيًا أتفهم دوافع كل منهم ومبرراته، لكنى كنت أقول للجميع، بغض النظر عن رأيه أو موقفه، إنه لابد أن يسلم بالحقائق فى عالم الصحافة والتكنولوجيا، والتى تبشر بمزيد من التحولات فى صناعة ومهنة الصحافة والإعلام، لقد تحولت الصحافة فعليًا إلى صناعة محتوى مدمج من الأخبار والترفيه، يقوم فيه الجمهور بدور المستهلك النشط وصانع المحتوى فى آن واحد.
لذلك فإن الصحفى الجيد، وباحث الإعلام الجاد، والقارئ الذكى، والمستثمر فى مجال الإعلام وصناعة المحتوى.. كل واحد من هؤلاء عليه أن يطرح على نفسه سؤالاً كبيرًا وهو: ما شكل ومضمون الصحافة والإعلام بعد عشر سنوات، أو حتى فى 2025، أى بعد أقل من 8 سنوات؟ وقناعتى أن هذا الإجابة الصحيحة أو حتى الأقرب إلى الصحة هى مفتاح النجاح لأطراف عملية صناعة المحتوى والإعلام والترفيه، لأنه ببساطة إذا عرف الاتجاه الصحيح للمستقبل، سيقوم بتغيير واقعه وطريقة عمله، وسينجح فى الاستمرار والتطور، من دون أن يدوسه أو يدمره المستقبل بكل تحدياته. لكن للأسف فإننا فى مصر لا نطرح سؤال المستقبل، سواء فى مجال الإعلام وصناعة الأخبار أو فى غيره من المجالات، ولعل ذلك أحد أسباب تخلفنا عن ركب التطور العالمى فى كثير من المجالات.
وأتصور أن أهم التحولات فى الصحافة والإعلام خلال السنوات القادمة وحتى 2025 هى:
أولاً: الاندماج الكامل بين وسائل الإعلام المختلفة، فلن تكون هناك فروق أو فواصل نظرية أو عملية بين الصحافة والإذاعة والتليفزيون، حيث سيكون هناك تكامل واندماج بينها، وهو ما يتطلب إعداد صحفيين أو بحسب الطريقة المصرية إعلاميين بمواصفات جديدة ومهارات مختلفة عما يتمتع به العاملون حاليًا فى مجال الإعلام، سيكون هناك منتج المحتوى، وهذا المحتوى سيعتمد على المالتى ميديا تمامًا، وعلى برامج وتطبيقات حديثة ومتطورة، وبالطبع غرف أخبار مدمجة ومتطورة. رسالتى وبدون غضب هى موت الصحفى أو الإعلامى الحالى إن لم يطور أدواته، ويكتسب مهارات جديدة، تمكنه من إنتاج المحتوى والتفاعل مع الجمهور بشكل دائم.
ثانيًا: تطور سرعة الإنترنت، حيث سينتشر الجيل الخامس، وستظهر برامج وتطبيقات حديثة، مما يتيح سهولة وسرعة فى تحميل المشاهد والأفلام، ويؤدى إلى تطور غير مسبوق فى تليفزيون وإذاعة الإنترنت.
ثالثًا: توحش الهواتف الذكية وانتشارها، اعتمادا على سرعة الإنترنت، وظهور برامج وتطبيقات كثيرة، تجعل من الهواتف الذكية منصات متحركة للأخبار، ومشاهدة التليفزيون والأفلام، والاستماع إلى الراديو والموسيقى، مما يؤكد على ضرورة امتلاك أى مؤسسة إعلامية رؤية واستراتيجية للتعامل مع الهواتف الذكية كمنصات لتوزيع خدماتها والتفاعل مع الجمهور، وفى هذا السياق من المرجح أن تطلق كل من فيس بوك وجوجل هواتف ذكية خاصة بها لتنافس آيباد الذى تصنعه أبل، مما يساعد هذه الشركات الثلاث العملاقة على لعب دور أكبر فى صناعة وتوزيع المحتوى، ويهدد بظهور نوع من الاحتكار والهيمنة الإعلامية. وتشكو الكثير من المؤسسات الصحفية والإعلامية حاليًا من الدور المتعاظم للعمالقة الثلاثة فى صناعة المضمون والحصول على نصيب الأسد من الإعلانات الرقمية.
رابعًا: ظهور نماذج اقتصادية جديدة فى تشغيل وإدارة المؤسسات الإعلامية، النموذج الأول هو انتهاء الخدمات المجانية، فلابد من الاشتراك المدفوع لكى يحصل المتصفح أو القارئ «الجمهور» على الأخبار والآراء وجرعات الترفيه، والنموذج الثانى يعتمد على الدمج والتداخل بين التحرير والإعلان والإدارة والدخل والإنفاق، بحيث يعمل رئيس التحرير والمحررون مع مسئولى الإعلانات والتوزيع والإدارة جنبا إلى جنب فى تطوير المحتوى وتوزيعه، ما يعنى نهاية الفصل التام بين التحرير والإدارة والإعلان، أما النموذج الثالث فيعتمد على محركات البحث ومواقع تفضيلات الجمهور فى وسائل التواصل الاجتماعى، لمعرفة ما يريده الجمهور، وما ينبغى أن تقدمه أى وسيلة إعلامية من خدمات وقصص إخبارية وربما آراء، ويثير النموذجان الثانى والثالث إشكاليات تتعلق بحرية الصحافة ودور الصحفيين لا يتسع المجال لمناقشتها فى هذا المقال.
هذه بعض أهم التحولات المتوقعة فى صناعة الصحافة والإعلام، أو لنقل بلغة العصر مستقبل «صناعة المحتوى»، وللأسف نحن فى مصر بعيدون عنها، لأن كثيرًا منا لا يعرفها، ولا يفكر أصلاً فى المستقبل.
إن مؤسسات الصحافة والإعلام فى مصر تعيش فى الماضى، لأنها تخشى من طرح سؤال المستقبل والاستعداد له، ومن ثم إحداث التغيير المطلوب والاشتراك فى صناعة المستقبل، لذلك تأخرنا فى التحول إلى الرقمنة الإعلامية، وتمسكنا بالورقى شكلاً ومضمونًا، ولم تظهر تجارب جادة لتجديد أساليب الكتابة وأشكال تقديم المضامين الإعلامية، ومحاربة الأخبار المزورة Fake News، واندفعت كثير من الاستثمارات فى السنوات العشر الأخيرة إلى صناعة التليفزيون، من دون أن تدرى أن التليفزيون بشكله الحالى يتغير، ولم يهتم المستثمرون بالإعلام الرقمى، لكن ظهرت محاولات قليلة لإطلاق مواقع إخبارية ومنصات للإعلام والترفيه الرقمي، بعضها حقق نجاحًا وأغلبها تعثر لأسباب كثيرة.
من هنا أشارت نشرة منتدى المحررين المصريين الأسبوعية «أحد مشروعات البرنامج المصرى لتطوير الإعلام EMDP»، إلى أن السوق المصرى بقى بعيدًا عن أعين الاستثمارات الأجنبية فى مجال الإعلام، ماعدا مساهمات بعض الجهات الخليجية فى مشروعات إعلامية بعينها، إلا أنه من المستبعد أن يبقى الوضع هكذا طويلاً فى السنوات القادمة، خاصة فى مجال الاستثمار الإعلامى الرقمى العابر للحدود، ليس فقط لجاذبية السوق المصرى الإعلامى - الإعلانى، ولكن لكون مصر نقطة انطلاق قوية فيما يتعلق بصناعة المحتوى لكل أسواق المنطقة العربية، ونحن نتحدث عن سوق كبير به أكثر من 300 مليون مشاهد، منهم ما يزيد عن 160 مليون مستخدم على الإنترنت، %70 منهم من الشباب، وهم الأكثر استهدافًا من قبل أى استثمار أجنبى متوقع فى مجال الإعلام.
المعنى أن الاستثمارات الأجنبية ستأتى بقوة إلى مصر خلال السنوات القليلة المقبلة، وستقدم مضامين جاذبة ومتطورة تمكنها من الحصول على نصيب من كعكة الإعلانات، ولن تجد هذا الاستثمارات الأجنبية صناعة وطنية قوية للمحتوى الإعلامى تستطيع أن تنافسها، لذلك لابد من تشجيع صناعة المحتوى المحلية ودعمها، إضافة إلى إصدار قوانين وتشريعات تدعم صناعة المحتوى الإعلامى والترفيهى الوطنية، لأن القضية هنا تتعلق بالهوية والثقافة الوطنية التى لابد من الدفاع عنها وحمايتها.