فى سنوات الثورة المصرية نجح المصريون فى كسر الخوف الموروث من السلطة بكل رموزها، وأثبتوا قدرتهم المتنامية على تحدى تلك الرموز فى دولة نهرية مركزية عريقة كمصر، كان للسلطة والسلطان فيها هيبة وقدرة غير محدودة على البطش من دون حساب. وتراجعت مكانة الرئاسة وزادت السخرية منها فى عصر محمد مرسى وحكم الإخوان.
واختفى مرسى، وبقيت الدلالة الأهم أن حاكم مصر لم يعد الفرعون المقدس، أو التجسيد الحى لمصر، بل صار موظفًا عامًا، من حق الجميع تقييم أدائه وانتقاده والسخرية العلنية وعبر الميديا الجديدة والقديمة منه، لكن ربما تغير الوضع فى عصر الرئيس الانتقالى عدلى منصور والرئيس الحالى عبدالفتاح السيسى الذى اكتسب شعبية جارفة، باعتباره منقذ مصر والمصريين من الإخوان، والامتداد الطبيعى لنموذج القيادة القوية، كما جسدها عبدالناصر ثم السادات على ما بينهم من اختلافات.
وفى خلال سنوات الثورة المصرية، غير المكتملة من وجهة نظرى، ارتفعت على نحو غير مسبوق مستويات تسييس الدين أو تدنيس المقدس، وهى ظاهرة مركبة وبالغة التعقيد، كان لها وجود ملموس قبل 25 يناير 2011م، لكنها انتشرت على نطاق واسع بعد الثورة، وتجلت فى عديد من الصور الاجتماعية والسياسية، أهمها زيادة مظاهر التدين «الشكلانى»، وانتشر الخطاب الدينى ورموزه، وصار له الصدارة فى الخطاب السياسى لرئيس الدولة محمد مرسى، وظهر 15 حزبًا بمرجعية إسلاموية، والمفارقة أن بعض شيوخ الدعوة السلفية الذين دخلوا البرلمان أو شكلوا أحزابـًا سياسية، تورطوا فى ممارسات بعيدة عن أخلاق الإسلام، وفشلوا، وكذلك الإخوان، فى تقديم نموذج أخلاقى فى العمل السياسى، بل على العكس، أصابتهم السياسة بأمراضها وأكاذيبها وخطابها المزدوج، ووظفوا الإسلام لأهداف سياسية ودعائية، ما كشف تدنيس السياسة للمقدس الدينى.
وهنا أحب أن أطرح ثلاث ملاحظات مترابطة حول الممارسة الاجتماعية والثقافية خلال سنوات الثورة وحتى اللحظة الراهنة، وهى بالطبع لا تخلو من دلالات سياسية:
الأولى: التحول المستمر والمتناقض فى مواقف الرأى العام المصرى، حتى يمكن القول إننا إزاء رأى عام متقلب يفتقر إلى العقلانية، ويصعب توقع مواقفه، أو الوسائل التى يعبر بها عن نفسه، سواء كانت سلمية أو عنيفة وفوضوية، وترتبط هذه الخصائص بمرحلة ما بعد الثورات والانتفاضات الكبرى، إلا أنها فى مصر أكثر وضوحًا وتأثيرًا فى الأحداث، فقد أيد معظم الرأى العام ثورة يناير، واقترن هذا التأييد بارتفاع سقف التوقعات والآمال، وبتأييد جارف للجيش، وكذلك للإخوان والسلفيين فى الانتخابات البرلمانية، حتى أنهم حصدوا أكثر من ثلثى المقاعد، ولكن سرعان ما انقلب الرأى العام على الجيش أثناء المرحلة الانتقالية، ثم تراجع انبهار الرأى العام بالإسلامويين وتخلى عن تأييدهم فى الانتخابات الرئاسية، أيضًا تراجع التأييد والحماسة للثورة لمصلحة نوع من الحنين إلى عصر مبارك الذى كان يوفر الأمن والاستقرار، كما تراجع التأييد لجبهة الإنقاذ ورموزها، بينما ارتفعت شعبية الجيش وتحسنت صورته من جديد، وحقق الرئيس السيسى شعبية غير مسبوقة تراجعت بسبب ارتفاع الأسعار نتيجة الإصلاح الاقتصادى.
الثانية: تراجع الأمل فى المستقبل لدى قطاعات واسعة من المصريين، خصوصًا الشباب الذين فجروا الثورة، وفجروا معها ثورة تطلعات مشروعة، لكنها لم تتحقق، لأنها تحتاج وقتا وجهدا، من هنا انتشرت مشاعر ومظاهر الإحباط الاجتماعى، بل والتشكيك فى جدوى الثورة نفسها ومستقبلها، لذلك يهاجر الشباب للخارج، أو يحلمون بالهجرة. فى مصر الآن جيل من الشباب كان ما بين 14: 17 من عمره عند قيام ثورة يناير 2011، صار من حقه اليوم الحديث باسم شباب مصر، لكنه بلا شك حائر ولا يثق فى صحة السرديات المتصارعة، وربما لا يثق أيضًا فى ما يُقدم له من أخبار ومعلومات بشأن ما يجرى فى الواقع، وينتشر عبر الإعلام الذى خلا تقريبًا من التنوع والتعدد والنقاش الجاد.
أتصور أن قطاعات واسعة من الشباب تشعر بالإحباط وربما الاغتراب، فلا توجد أمامها نماذج مشرقة وثابتة فى وطنيتها وعطائها، ربما باستثناء من يسقط شهيدًا، وحتى هؤلاء يوجد من يشكك فى رمزيتهم وصدق نواياهم، وذلك بحسب موقعهم فى السردية التى يروج لها كل طرف!!
السؤال المطروح على الشباب والوعى العام بشكل صريح أو ضمنى هو لماذا كانت الثورة؟ وما جدواها؟ إذا كان عصر مبارك فى كثير من السرديات، وبعضها شبه رسمى، أفضل من حكم الإخوان ومن سنوات ما بعد الثورة، من زوايا عدة، منها الاستقرار والأوضاع الاقتصادية وحفظ دماء المصريين. ويكتسب السؤال دلالات أعمق إذا ما امتد إلى حقيقة ما جرى فى 30 يونيو؟ حيث لم يسلم الخروج الجماهيرى الهائل فى ذلك اليوم من صراع السرديات المتصارعة، فهى ثورة عند البعض، وموجه ثورية عند الآخرين، وانقلاب عسكرى عند الإخوان وأنصارهم، لذلك يمتد التشكيك واللا معنى وعدم الثقة إلى ذلك الحدث التاريخى الكبير.
الملاحظة الثالثة: شهدت السنوات التى أعقبت ثوره يناير ثم 30 يونيو أحداثًا وتحولات غريبة ومتناقضة، أنتجت سرديات وقراءات متحيزة لأحداث الثورة، واستخداما مفرطا لفزاعات الفوضى.. والتكفير.. والإرهاب.. والتخوين.. والمؤامرة.. لتزييف وعى الناس وفرض الإذعان العام، والكارثة أن كل أطراف الصراع تورطت فى هذه الممارسات الخطابية والسياسية من دون إدراك لمخاطرها فى إضعاف المجال العام، ونشر اللامعنى والتهميش والإحباط بين المواطنين، وخصوصًا الشباب الذى فجر الثورة.
ولاشك أن حالة الصراع والاستقطاب بين النخب فى مصر تدمر إمكانيات العيش المشترك فيما بينها وتقضى أيضًا على مشروعيتها، وتتوافر ظواهر كثيرة تؤكد انصراف كثير من المصريين عن الاهتمام بالسياسة، بالمعنى الواسع للكلمة، حيث اختفت عشرات الائتلافات والحركات الشبابية الثورية وغير الثورية، وتراجعت معدلات مشاركة المصريين فى الانتخابات والاستفتاءات، مقارنة باشتراكهم فى الاستحقاقات الانتخابية فى عام 2012، والأهم أن هناك حالة من الإحباط واللا معنى والشك فى جدوى الثورة، وحقيقة ما جرى، وجدوى الإصلاح، تلخصها المقولة العامية المتداولة «مفيش فايدة»!!
وأعتقد أن عدم الاتفاق على أحداث الثورة المصرية وأطرافها يدعم من اللا معنى والاغتراب، ويغذى آليات التهميش والبعد عن السياسة بكل صورها، لدى قطاعات واسعة من المصريين، ما تزال حائرة بين سرديات السنوات السبع الأخيرة، ومن ثم فهى تهرب إلى الدين أو كرة القدم، أو البحث عن لقمة العيش، أو التطلع إلى الهجرة أو الانغماس فى الترفيه وإضاعة الوقت عبر مواقع التواصل الاجتماعى وبرامج التليفزيون.