انتظمت مواعيدى معه لأربع سنوات كل يوم جمعة بعد الصلاة، هو فى القاهرة، وأنا فى قريتى، لكن أسلاك التليفون كانت تختصر المسافات فتقرب البعيد، ولأنه محمود عوض الكاتب الذى امتلك سحر الكتابة الصحفية، وأطلق عليه إحسان عبدالقدوس لقب «عندليب الصحافة»، كنت أضبط إيقاع يومى هذا على لقائه التليفونى، فتكون حصيلتى منه عشرات الحكايات التى كان طرفا فيها وشاهدا عليها، فيها ما هو معروف وكتبه فى مؤلفاته المهمة، وفيها ما هو مجهول، لكنه وحده الذى يعلمه ولأنه لا يتاجر بما يعرف، اختزنها بداخله دون خوض فيها لأنها تمس آخرين.
حكايات فيها طه حسين ومصطفى أمين وعلى أمين ومحمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وإحسان عبدالقدوس وموسى صبرى وكامل الشناوى وأخبار اليوم والأهرام، وفيها أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ وكمال الطويل وبليغ حمدى وسعاد حسنى ووردة الجزائرية وشادية ونجاة، وفيها أيامه فى نيويورك وتعرفه على الممثل العالمى أنتونى كوين وأسرار صناعة النجوم فى هيوليود، وفيها سر مسلسله الإذاعى الوحيد لعبدالحليم حافظ: «أرجوك لا تفهمنى بسرعة»، وفيها سر قراءاته المتنوعة التى يقطف منها، فيحولها إلى أزهار فى بستان الكلمة، وفيها سر تنوعه فى الكتابة، ففى السياسة له مؤلفات «ممنوع من التداول»، أفكار إسرائيلية»، «الحرب الرابعة - سرى جدا» و«متمردون لوجه الله» و«وعليكم السلام» و«انفراد - الحرب المستحيلة حرب الاستنزاف» و«بالعربى الجريح» و«من وجع القلب».
وفى الدراسات الأدبية «أفكار ضد الرصاص» و«شخصيات» و«سياحة غرامية» و«مصرى بمليون دولار» و«أوراق إلى حبيبتى»، وفى الدراسات الفنية: «محمد عبدالوهاب الذى لا يعرفه أحد»: «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد»، وفى الرواية والقصة «أرجوك لا تفهمنى بسرعة» و«شىء يشبه الحب»، و«نوابغ العرب، سلسلة: طه حسين، أحمد شوقى، سيد درويش، سعد زغلول، مصطفى كامل، جمال الدين الأفغانى».
تميز فى هذا التنوع بأنه على درجة واحدة فى تفوق الإبداع، وحرص منه على أن يكون كاتبا موسوعيا لا يصنف على لون واحد، فهو وكما عرفت منه لم يتحمس لتأليف كتاب عن عبدالحليم حافظ وفريد الأطرش رغم إلحاحهما حتى لا يبدو أنه كاتب سير فنانين، ولم يتنازل عن هذه القاعدة، حتى حين كتب البعض بعد وفاة عبدالحليم كتبا يدعى أصحابها بأنهم كانوا العالمين بأسراره، وناشدته السيدة علية شبانة شقيقة عبدالحليم أن يكتب الحقيقة فى كتاب عن صديقه لأنه أكثر الأمناء عليها.
محمود عوض الذى تحل ذكرى وفاته التاسعة هذه الأيام «اكتشفنا موته وحيدا فى شقته يوم 30 أغسطس عام 2009»، يتحدث هو عن سر تنوعه وإبداعه، قائلا فى كتابه بالعربى الجريح: «فى الواقع أن مشوار الحياة أتاح لى مبكرا الاقتراب بشدة من أسماء سبقتنى بجيل واحد أو جيلين، كلهم أساتذة.. بغير أن يقصد أى منهم أن يصبح له تلاميذ، كلهم مثمرون مرتين: مرة بعطائهم الذاتى، ومرة بالقيم التى أتاحوها للآخرين.. اختلفت طباعهم فى أشياء وأشياء.. واتفقت فى شىء واحد: أن الموهبة بحد ذاتها عطاء من الله.. لكن حماية الموهبة هى من صنع الإنسان، والإنسان يحمى موهبته بالعلم والتعلم، بالواقعية والأحلام، بالتطلع إلى منافسة الأفضل، وليس الأسوأ، بالتواضع وليس بالتكبر، والعطاء قبل الأخذ، والإصرار دائما على أنه بعد الحسن لا يزال هناك الأحسن، فهذا هو سر التطور، لقد لمست هذا السر متكررا عن قرب شديد، ليس فقط فى علاقتى بمحمد عبدالوهاب وأم كلثوم ولكن بطه حسين أيضا وكل العصامين الكبار الذين أوهمونا بأنهم يتعلمون منا، بينما الحقيقة المجردة هى أننا الذين كنا نتعلم منهم».
وغدا نواصل