أعلم يقينا أنها لا تحب أو حتى تميل إلى وصفها بـ"الأسطورة" أو بأية ألقاب أخرى من قبيل التمجيد جراء مسيرتها الإعلامية العظيمة، لكن بنظرة فاحصة على مجمل حياتها ورحلتها فى عالم الإعلام المرئى والمسموع، سوف تكتشف مثلى كم كانت هذه السيدة "الدقهلاوية" عظيمة - متعها الله بالصحة والعافية – كما أمتعتنا بصفات لا تجعل منها فقط أسطورة الإعلام فى العصر الحديث كله، ولكن يجعلها وبحق فى مصاف نجوم القرن العشرين الذين قدموا أروع مافينا من أعمال خالدة ، بفرط من موهبة حقيقية مستمدة من طينة هذه الأرض الطيبة، وثقافة لا تعرف الثرثرة غير المجدية والادعاء بالعلم دون سند معرفى، فضلا عن بساطة غير مصطنعة لا تخلو من كبرياء مصحوب بالثقة بالنفس، وكلها كانت عنوانا لزمن جميل مضى.. وأظنه لن يعود!!.
عاشت شخصية مستقلة، فى طريقة تفكيرها وتعاملها مع الآخرين مهما كانت مراكزهم الاجتماعية والفنية والأدبية، حتى ملأت الحياة سجالاً ونقاشاً ببرامجها وضيوفها، وأسلوبها فى الحوار الصادم الذى يستند للغة عربية رصينة، الأمر الذى جعل الكثيرين يتهمونها بالتعالى والغرور جراء "عرق تركى" ورثته رغما عنها، وبحكم تكوينها النفسى والاجتماعى ونشأتها الاستقراطية، حيث ولدت فى نهاية الثلاثينيات من القرن الماضى بمدينة المنصورة أجمل مدن الدلتا وماتزال حتى الآن، ثم انتقلت للعيش فى الإسكندرية وبورسعيد بسبب ظروف عمل والدها، المهندس عبد الحميد بك رستم، الشقيق الأصغر للفنان زكى رستم، ولكن تبقى المنصورة هى المحطة الرئيسية فى حياة "ليلى رستم" حين التحقت بمدرسة للراهبات، والتى تدين لها بالكثير مما وصلت إليه فى رحلتها الإعلامية الطويلة، ليس على مستوى العلم والثقافة وحسب، ولكن فى الخلق والتربية والفكر أيضا، ما جعلها تعيش حياة عريضة مفروشة بالورود المحفوفة بالأشواك، والتى لم تسلم من جراحها التى ظلت محفورة فى الذاكرة على مر الأيام والتاريخ.
حط الرحال بـ "ليلى" الفتاة الصغيرة حجما، الكبيرة عقلا وموهبة فى القاهرة، لتدرس الصحافة والإعلام بالجامعة الأمريكية، ولسان حالها يقول: "واثق الخطو، يمشى ملكاً"، فهى بحكم النشأة والتكوين ترفض من يسيطر عليها ولو بكلمة، مؤكدةً أنها وُلدت لأم وأب من أصل تركى، وعاشت بين الفلاحين فى قلب دلتا مصر، حيث الخضرة التى تكسو طبيعة ساحرة فى ذلك الزمان، ولم يدر بخلدها إنها ستصبح الإعلامية الكبيرة "ليلى رستم" التى أصبحت عبر فترة زمنية لا تتجاوز 7 سنوات حديث العاصمة الصاخب، بفضل جرأتها فى الطرح وأسلوبها الشيق الذى يميل إلى الاستفزاز بحنكة وهدوء أعصاب تحسد عليها، من خلال برامجها فى عصر التليفزيون الذهبى "نجمك المفضل"، و"الغرفة المضيئة"، و"20 سؤال" وغيرها من برامج أخرى قدمتها فى الإذاعة المصرية عبر"البرنامج الأوربي" غير نشرات الأخبار باللغة الأنجليزية والفرنسية فى آن واحد.
لقد كتب عنها الناقد والشاعر الغنائى "جليل البندارى واصفا نجمة نجوم العصر الذهبى للتليفزيون المصرى ستينيات القرن الماضى، وصاحبة برامج لا تزال الكنز فى مكتبة التليفزيون " فى أحد مقالاته قائلاً: "جمالها لاذع كعسل النحل، ولسانها لاذع كقرصة النحلة"، وقالت عنها الكاتبة الكبيرة سناء البيسى: "لكى أقابلها يجب أن أرتدى كل ذكائى، وأستحضر كافة بديهتى، وأتنمر للدفاع عن نفسى، وأضع على جسمى أشيك فستان عندى، وأستند على لغتى الأجنبية، ولا أحاول أن أقول نكته فى غير موضعها"، وذلك باعتبارها محاورة عمالقة الأدب والفن والسياسة، فى زمن كانت فيه هى الصغيرة سنا وحجما، والتى سُمح لها باقتحام عوالمهم نجوم المجتمع المصرى الداخلية والخارجية، لتصير حواراتها وسجالاتها الفكرية والفنية هى الأكثر جدلاً، على الرغم من اختصار علاقتها بالشاشة على سبع سنوات فقط، لكنها بدت خلالها متوقدة الذهن والمظهر، حاضرة البديهة، والتعليق الساخر الذى يعكس فلسفة وثقافة موسوعية ورفيعة المستوى.
التحقت "ليلى رستم" بالعمل بالإذاعة كمذيعة بالبرنامج الأوروبى لمدة ٦ أشهر، فلفتت إليها الأنظار، وكان ذلك سببا فى ترشيحها للعمل مذيعة بالتليفزيون، فبدأت حياتها المهنية مع انطلاق أول شرارة للتلفزيون المصرى فى 23 يوليو 1960، وكان أول ظهور لها فى التلفزيون كمذيعة ربط، ثم قارئة للنشرة الفرنسية لبلاغتها الشديدة، وخلال فترة قصيرة قدمت العديد من البرامج السياسية والاجتماعية والفنية منها "نافذة على العالم"، وكان من أشهر تلك البرامج" الغرفة المضيئة" و"نجمك المفضل"، ومن الانتقادات الأبرز فى حياتها المهنية اتهامها بالغرور والتعالى حتى على ضيوف برامجها، فيما كانت ترد على ذلك بالنفى دائما، مؤكدة أن ما لديها ليس سوى مجرد ثقة بالنفس، إلا أن بعض القريبين منها أكدوا أنه كان لدى "ليلى" إحساس زائد بالتميز، وربما كان هذا وراء الاتهام.
وواصلت "رستم" التى وصفها النقاد فى ستينيات القرن الماضى بأنها "أيقونة الجمال والجرأة" رحلتها المحفوفة بالمخاطر المستمدة من طبيعة تكوينها ونشأتها، مؤكدة دوما بأنها ترغب فى الاستقلال بذاتها، حتى أنها قالت فى أحد حواراتها الصحفية: أهم ما يميزنى فرديتى، ولا أسمح لأحد بالتفكير لى أو التدخل فى آرائى أو حكمى على الأمور، ولذا يزداد إعجابى بالمرأة التى تتغلب على أنوثتها وتعتمد على ذكائها وإمكاناتها، وهو الأمر الذى كلفها فى نهاية الستينيات أن ترحل عن القاهرة مرغمة - بعد أن تم الحجز على أموال وأراضى الكثيرين بموجب التأميمات، وكان زوجها واحداً منهم - لتبدأ مرحلة جديدة فى تاريخها المهنى فى تليفزيون بيروت لتقدم العديد من البرامج المهمة منها "سهرة مع الماضى" و"بين الحقيقة والخيال"، و"محاكمات أدبية"، و"نجوم على الأرض" وفى عام 1980 ، عادت ليلى رستم إلى القاهرة، لتواصل عملها بالتليفزيون المصرى وقدمت وقتها برنامج "قمم"، ومنذ سنوات قريبة، ظهرت مع مذيعى برنامج " البيت بيتك" فى أولى حلقات البرنامج وشاركتهم التقديم.
لقد أتيحت لى فرصة التعرف على هذه الإعلامية القديرة عن قرب من خلال مشاهدتى هذا الأسبوع مصادفة لبعض من حلقات برنامجها "نجمك المفضل"، والذى استضافت خلال (150 حلقة) كبار الممثلين والأدباء والشعراء أمثال محمد عبد الوهاب وفاتن حمامة وطه حسين ويوسف السباعى وإحسان عبد القدوس وعمر الشريف ومصطفى أمين وعلى أمين وغيرهم من نجوم الأدب والفن والثقافة المصرية، وقد لامست مدى جديتها وحضورها ولباقتها وثقتها بنفسها، وحينئذا أدركت ذلك السر الذى جعل منها عملاقة رغم صغر سنها، وهو الأمر الذى أهل ظهورها بالضرورة كإعلامية مرموقة على شاشة ماسبيرو، رغم أن بداياتها كانت فى ظل وجود عمالقة فى المجالات المختلفة كالإعلام والفن والثقافة، إلا أن عملها كصحفية دبلوماسية بجريدة الأهرام ربما منحها الثقة والجرأة فى بداية الطريق على الخوض فى عوالم الشخصيات التى حاورتها والأحداث التى تفاعلت معها بكل جوارحها، وهى التى عملت على مدى 20 عاماً فى جريدة "الهيرالد تريبيون" وعملت كمراسلة لمجلة "الحوادث" فى تغطية أحداث الحرب الأهلية اللبنانية فى مرحلة لاحقة من حياتها بعد أن استقر بها المقام فى بيروت.
بين القاهرة وبيروت عاشت ليلى رستم - بموهبة نسائية واثقة من نفسها - حياة ملئها الكفاح والعرق ، وعلى الرغم من أنها تبدو لأول وهلة من شياكتها وفخامتها : تلك الفتاة الارستقراطية، فلم تكن - على حد تعبيرها - من ذلك النوع الذى يحلم بصنع المعجزات ، بل أحبت الإعلام لأنه كان عشقها الأول والأخير .. لك كل الحب والأمنيات الطيبة ومتعك الله بالصحة والعافية.