لا تتعلم الحكومات فى كل الدنيا الدرس رغم تكراره، ولا تعرف أن من الذكاء السياسى ألا تخوض حربًا ضد شعبها الخارج من انتصار للتو، وهذا ما حدث فى مدينة الموصل العراقية، عندما أصدرت الحكومة هناك قرارا بتحويل المكتبة المركزية إلى محكمة.
كان على الحكومة أن تدرك أن مدينة الموصل عاشت ثلاث سنوات من الرعب والخوف بسبب سقوطها فى يد التنظيم الإرهابى الشهير داعش، والذى لم تخرج من تحت يده إلا مؤخرا، بعد معارك دامية، وخلال هذه المعارك خسرت المدينة الكثير من رجالها ونسائها وأطفالها ومبانيها الأثرية والتراثية، وعانت ولا تزال بشكل نفسى رهيب من الممارسات التى قام بها التنظيم الإرهابى الذى فرض أسلوبه وطرقه العقيمة فى الحياة القائمة على القتل والتخويف والتجريف العقلى والقهر وإلغاء التعليم وسلب البهجة من النفوس.
تغيرت ملامح المدينة بشكل كبير بعد هذه المحنة وخسرت الكثير مما كان يميزها، ومن ذلك مئذنتها الحدباء بجامع النورى ومسجد النبى يونس كما ضاع متحفها المهم ومعالم أخرى كثيرة، وصارت ثانى أهم مدينة عراقية لا تكاد تعرف نفسها، وتحول الكثير من أماكنها التاريخية إلى مجرد صور موجودة على مواقع الإنترنت أما معايشتها فصارت مجرد حكايات سوف تنقرض مع توالى الأجيال وتتحول إلى ما يشبه الأساطير، وذلك أمر مؤلم بشكل كبير لأهل الموصل.
كان على الحكومة العراقية أن تدرك ذلك عندما فكرت فى أن تحول المكتبة المركزية العامة فى المدينة إلى محكمة، وأن تعرف أن المدينة لا ينقصها تبدل فى ملامحها ولا خلل فى تاريخها، لذا رفض الناس هناك ذلك، بل وصل الأمر لخروج احتجاجات رافضة، وكانت النتيجة أن انتصرت إرادة الشعب فى هذه المعركة التى ربما يراها البعض صغيرة، لكنها كبيرة بشكل لا يتوقعه سوى من كانت تفرض عليه القرارات لمدة ثلاث سنوات متتالية، حيث صدر قرار شفهى من رئيس الوزراء العراقى حيدر العبادى بوقف تنفيذ قرار الحكومة المحلية.
نعم انتصر أهل الموصل فى معركة ثقافية مهمة خاصة أن المكتبة المركزية العامة فى المدينة هى المكتبة الوحيدة الناجية من التدمير الداعشى، وأنها مبنى تراثى أنشئ عام 1921، أى مع تأسيس الدولة العراقية عقب الاحتلال البريطانى، وهى المكتبة الوحيدة التى نقل تنظيم داعش الإرهابى كتبها ومخطوطاتها وخرائطها القيمة إلى سراديبها السفلية ولم يحرقها أو يستولى عليها، واكتفى أفراده بتشويه الجدران وبعثرة الكتب وتخريب الأسلاك الكهربائية. وهى المكتبة العامة الوحيدة فى المدينة إلى جانب مكتبة أخرى موجودة داخل جامعة الموصل أحرقها التنظيم.
ولا نحتاج للقول بأن المدن التى ظلمتها الحروب تحتاج إلى المكتبات بشكل أكبر من المدن الأخرى المستقرة، لأن الأولى فى حاجة ملحة إلى إعادة بناء ذاتها من جديد، وبناء الذات لا يكون إلا بالمعرفة حتى لا يأتى البناء مشوها أو أحادى الجانب وغير مفيد للوطن والأرض، فالأطفال بحاجة قوية لمكتبة عامة كبرى تراثية بكتبها ومبانيها لتقول لهم إن أصولهم تمتد فى هذه الأرض إلى قديم الزمان.