يخلط بعض الناس بين تعطيل بعض أحكام الشريعة الإسلامية وبين إلغاء هذه الأحكام الثابتة بنصوص صحيحة صريحة، ويخلطون كذلك بين تعطيل العمل بالأحكام وبين تغيير حكم فقهى اجتهادى فى مسألة ما واستبدال حكم اجتهادى آخر به مراعاة لأحوال الناس فى زمان ما ومكان ما، ولئن كان الثانى جائزًا بشروطه وقواعده، فإن الأول لا يجوز بحال.
ومن الأول ما يقال هذه الأيام عن أحكام المواريث، وهى أحكام ثابتة بنصوص قطعية الثبوت والدلالة لا يجوز إهمالها أو إغفالها؛ إذ يريد بعض الناس تغيير هذه الأحكام بزعم المساواة بين المرأة والرجل، ويستدل هؤلاء على ذلك بأن سيدنا عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- عطَّل حد السرقة مجتهدًا، وهو حد ثابت بنصوص قطعية من الكتاب والسنة، واجتهد أيضًا فى إخراج الزكاة للمؤلفة قلوبهم؛ حيث عطَّل سهمهم الثابت بنص قطعى فى كتاب الله، ويستدلون كذلك باستبدال القوانين الوضعية بالحدود كقطع الأيدى والجلد أو الرجم وغير ذلك، وكذا إلغاء الرق بمواثيق دولية، وهى عقوبات وأحكام ثابتة يقينًا بنصوص قطعية كتلك النصوص الواردة فى شأن المواريث، ويتخذ هؤلاء مما سبق ذريعة لتأكيد إمكانية الاجتهاد فى النصوص الشرعية دون تفريق بين القطعى والظنى منها، ودون تفريق بين التنوع فى الاجتهاد فى استنباط الأحكام وبين إلغاء العمل بالنصوص.
ومع احترامنا وتقديرنا لكل اجتهاد منضبط بقواعد أهل العلم، إلا أن هذا الطرح يعد خلطًا كبيرًا ووهمًا خطيرًا فى تناول المسائل الشرعية، وهو يؤكد ما ذكرته مرارًا وتكرارًا من خطورة تصدى غير المؤهلين للنظر فى الأحكام الشرعية، فضلًا عن النظر فى الأحكام الشرعية من منطلق عقلى فقط دون التزام بضوابط النظر العلمية المتفق عليها؛ فثمة فرق كبير بين ما فعله سيدنا عمر من إيقافه تطبيق حد السرقة وبين تغيير أحكام المواريث واستبدال أحكام أخرى بها، فسيدنا عمر لم يغير الحكم الثابت بالنص القطعى، ولكنه بولايته العامة وجد أن شروط تطبيق الحد لم تتوافر؛ إذ يوجد شبهة قوية تدرأ الحد وتحول دون تطبيقه، وهو يعلم قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم»، وعلى هذا، فمن تراجع عن اعترافه وإقراره بجريمة توجب حدًّا فلا حد عليه، وكذلك إن رجع الشهود أو بعضهم عن شهادتهم بحق من ارتكب جرمًا يوجب الحد، فإن العقوبة تسقط وإن بقى بعضهم متمسكًا بشهادته ضده.
ومن ثم، كان تعطيل سيدنا عمر لحد السرقة لشبهة، فلا يخفى على أحد ما عاناه الناس فى عام الرمادة من الجوع الذى أرهقهم، فتمكنت شبهة الجوع من الحد فأسقطته؛ حيث فُقد شرط العدوان على المال عند أخذه، وذلك للضرورة أو الحاجة الشديدة التى تجلت فى هذا العام، فسقط الحد وبقى المال المأخوذ دينًا فى عنق آخذه، أما حكم السرقة فباقٍ كما هو ولم يتغير وإن لم يطبق، وهذا على خلاف ما يقول به دعاة تغيير أحكام ميراث المرأة فى هذه الأيام.
وأما ما فعله سيدنا عمر بسهم المؤلفة قلوبهم، فلم يكن اجتهادًا مؤديًا إلى تغيير نص قطعى كما يزعم هؤلاء، ولكنه أوقف تطبيق الحكم لزوال علته؛ حيث إن هذا السهم كان يُعطَى تأليفًا لقلوب حديثى العهد بالإسلام، فقد كان أتباع الإسلام وقتئذ قليلى العدد ضعاف النفوس، وكان يرجى من إعطائهم من مال الزكاة ترسيخ الإيمان واستقراره فى قلوبهم، فلما زالت العلة وقوى الإسلام برجاله ومضت مدة كافية لتحول إيمانهم إلى إيمان يقينى والتزام حقيقى بتعاليمه وأحكامه؛ رأى سيدنا عمر أن علة أخذهم من مال الزكاة قد زالت فلم يعطهم، وهذا لا يعنى إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم ولا نسخه، ولكن وقف تطبيقه لعدم وجود الداعى له.
وأما الاستدلال باستبدال عقوبات قانونية وضعية بالحدود الشرعية، فهو مغالطة أخرى؛ لأن أحكام الحدود باقية كما وردت فى نصوصها ولا سلطة لبشر فى تغييرها أو استبدالها، فإن توافرت شروط تطبيقها ولم تطبق أَثِمَ من عطَّلها، وإن لم تتوافر شروطها لفساد الذمم المؤدية للشك فى شهادات كثير من الشهود أو وجود شبهات الجوع أو الاضطرار أو انتفاء الحرز فى السرقة مثلًا؛ لم يجب القطع عندئذ أصلًا. وحد الزنى كذلك يصعب تحقق شروط إثباته بالشهادة؛ حيث يندر أن يرى أربعة من الرجال العدول الجريمة بوصفها المشروط شرعًا لإقامة الحد على الفاعل، إلا أن يقر الزانى ويطلب إقامة الحد عليه، وهو ما لم نسمع به بعد ماعز والغامدية، ومن ثم، فإن الحدود لم تتغير أحكامها، وإنما لم تكتمل شروط إقامتها فلذلك عُطلت، وهنا لا بد من التنبيه إلى أن عدم تطبيق الأحكام لشبهةٍ ما لا يغير وصف الفعل عند الله عز وجل ولا ينفى المؤاخذة عليه فى الآخرة.
أما القول بتغيير حكم الرق وإنهائه بالمواثيق الدولية، ففيه جانب كبير من الخطأ أيضًا؛ لأن الرق أنهاه الشرع الحكيم بمسلك عجيب قبل هذه المواثيق؛ حيث كره الإسلام الرق الذى وجده منتشرًا بين الناس، فقد كان يمثل جزءًا كبيرًا من اقتصادات المجتمع الجاهلى، ولم يكن من السهل القضاء عليه دفعة واحدة وإلا لانهارت المنظومة الاقتصادية، وربما كان سلبهم عبيدهم وتجارتهم القائمة على الرق عائقًا يمنع دخول الناس فى دين الله أفواجًا، لما هو معلوم من تعلق النفس البشرية بالثروات، فقلل الإسلام من موارد الرق وحصرها فى مورد واحد لا يتكرر كثيرًا؛ حيث جعله أحد خيارات أربعة فى أسرى الحرب، وهو أضعف هذه الخيارات التى منها استبدال الأسرى أو المنُّ، وهما أنفع للمسلمين، وفى ذات الوقت فتح الإسلام أبواب العتق، فالعتق قربة لله عز وجل، وهو كفارة فى القتل الخطأ، وفى الظهار من الزوجة، والإفطار عمدًا فى رمضان، ومع مرور الوقت انتهى الرق من دنيا الناس وإن بقيت بعض صوره غير الشرعية لكون موردها ليس الحرب، وإنما هى نوع من جنايات الخطف، والتخلص من رعاية الأطفال، وغير ذلك من أمور كانت مناطًا لمنع القوانين الوضعية والمواثيق الدولية التى لم تغير حكمًا شرعيًّا باجتهاد.