بتنا فى أمس الحاجة كجماعة بشرية فى تعظيم مضامين المشاركة الإيجابية والتكاتف المجتمعى، فلا وقت ولا رفاهية للاستسلام للقنوط والسلبية والميل إلى الإحباط، ولنستنهض الهمم باستدعاء نماذج الإرادة والتضافر الشعبى من ماضينا المشرف، للاستلهام منه فى الدفع نحو مستقبل مشرق ومشرف، فى ظل محور شر إقليمى ودولى يدفع ويراهن على فشل وسقوط مصرى مرتجى.
فبرغم معاناة المصريين لدهور وعقود طويلة من الاحتلال والحروب والديكتاتورية والفقر، كان هناك ملاحم رائعة للمشاركة الوطنية الإيجابية، منها إنشاء جامعة القاهرة، ففى عام 1900م اقترح «جورجى زيدان» إنشاء جامعة أهلية ليتبنى «مصطفى كامل» مشروع الجامعة مروجًا له على صفحات جريدة «اللواء» فى عام 1904م لتجتمع فى عام 1906م اللجنة التى شكلت نفسها لإنشاء مشروع الجامعة، حيث تكونت اللجنة من «قاسم أمين» نائبًا للرئيس، و«محمد فريد» سكرتيرًا، و«حسن السيوفى» أمينًا للصندوق، وعضوية اثنى عشر من النخبة والأعيان والمثقفين الوطنيين من البشوات والبكوات والأفندية، وانتدب الخديوى «عباس حلمى» فى عام 1907م ليترأس الجامعة عمه الأمير «أحمد فؤاد» الذى أصبح فيما بعد الملك فؤاد والذى أطلق اسمه على الجامعة لتعاد تسميتها بعد ثورة 23 يوليو لتصبح جامعة القاهرة.
فقد مول المصريون بناء الجامعة عن طريق اكتتاب عام دعى إليه سعد زغلول وقاسم أمين ومحمد فريد، وغيرهم من النخب الوطنية الذين وجهوا النداء إلى عموم المصريين الذين هرعوا ملبين نداء الوطن لإنشاء الجامعة الأهلية الوطنية، ليتحقق الحلم بافتتاح الجامعة رسميًا عام 1908م.
لنشهد فى عام 1920م نموذجا وطنيا آخر لتضافر المصريين إيجابيا لا يقل روعة عن إنشاء جامعة القاهرة، وهو تأسيس بنك مصر ليصبح أول بنك وطنى أُسس فى تاريخ مصر الحديث، ويحكى قصة معزوفة وطنية عزفها كل فئات الشعب فلانت لها ديكتاتورية الحكام وغطرسة الاحتلال، حيث أُنشئ البنك عن طريق دعوة «محمد طلعت حرب باشا» المصريين للاكتتاب العام، واشتُرط فى عقد تأسيسه أن يكون حملة أسهمه من المصريين فقط، ليكفل له الصبغة القومية، فبلغ الاكتتاب العام حينها 80 ألف جنيه مصرى، حيث كان أكبر المساهمين هو «عبدالعظيم بك المصرى» من أعيان مغاغة، فقد اشترى ألف سهم، وكان سعر السهم قد بلغ حينها أربعة جنيهات مصرية.
هذه الصروح تقف شاهدة على إسهام النخبة المستنيرة فى دفع مسيرة العمل الوطنى والمسؤولية الوطنية والاقتصادية والمجتمعية، التى تحمّلها المصريون البسطاء منهم والأعيان لتلقى بظلالها على المسؤولية الحالية لأبناء الشعب المصرى، ورجال الأعمال الوطنيين، فى هذه اللحظات الصعبة التى يمر بها الوطن اقتصاديًا واجتماعيًا.
ليصبح لزامًا علينا أن نبدأ ملحمة تاريخية جديدة فى المساهمة فى تحفيز الذات الشعبية لمواجهة الأزمة الاقتصادية الطاحنة، والمشاركة المجتمعية فى مشروعات بناء الوطن، فقد كانت المشاركة الرائعة من أبناء مصر فى تكاليف حفر قناة السويس الجديدة خير معبر بصدق عن مدى النضوج الوطنى الذى وصل إليه الشعب المصرى على مدار تاريخه، فقد تجلى عنفوانه فى ثورتى الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو، وتحولت بذور الثورة إلى ثمار للاستقلال الوطنى بالتحرر الاقتصادى من أى هيمنة دولية تتحكم فى قوت الشعب المصرى واحتياجاته الأساسية والمعيشية، فلنفجر إنجازات عظيمة فى كل مناحى الحياة، وننبذ أى اكتئاب مجتمعى وامتعاض ناتج عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وتربص قلة، مستهدفين الرقص على أوتار فشل يعيدهم مرة أخرى إلى سدة حكم زائل وفانٍ، لنعلم جميعا أن التاريخ لن يرحمنا إذا لم نمض نحو الرقى والتقدم، لأن بديل ذلك ليس مجرد الفشل الذى ينتظره محاور الشر، وإنما التكالب علينا لتتحول الدولة إلى مجرد اسم كان يوما ما على الخريطة.