أتذكر أول مرة شاهدت فيها الدكتور بطرس غالى، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة من أكثر من 20 عامًا كنت طالبة فى الجامعة عندما التقيته فى بهو كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وهو بصحبة عدد من الأساتذة الذين كانوا فى انتظاره لحضور إحدى الفعاليات وتسمرت قدماى واقتربت منه مثل العديد من الطلبة لالقاء التحية ولم يكن أمينًا للأمم المتحدة بعد ولكنه كان رمزًا سياسيًا ودبلوماسيًا وفكريًا مرموقًا بالإضافة إلى كونه أستاذًا للقانون والعلوم السياسية تتلمذ على علمه الآلاف من الطلبة والطالبات على مدى سنوات طويلة.
وأتذكر كم كنت سعيدة وفخورة لرؤيته بعد ما قرأت له وعنه الكثير والكثير، ثم رأيته بعد سنوات فى عدد من المناسبات السياسية فى مصر، وكنت أول المتصلين به تليفونيًا فى مقر إقامته فى باريس لتهنئته على اختياره الرئيس الشرفى للمجلس القومى لحقوق الإنسان قبل اتصال مسئولى الدولة وقد فاجأنى بأنه لم يعلم شيئًا عن اختياره للمجلس وبعد 15 دقيقة من الحديث معه من القاهرة نشرت كل ما صرح به فى الصفحة الأولى للأهرام وكان سبقًا صحفيًا منحه لى لأول تصريح لرئيس المجلس فى الصحافة.. ثم تواصلت معه كثيرًا ومنحنى ثقته فى إجراء عدد من الحوارات الصحفية للأهرام ثم لبرنامج "نبض القاهرة" على شاشة القاهرة والناس كما استقبلنى فى بيته وفى المستشفى الذى كان يتردد عليه كثيرًا فى السنوات الأخيرة بعد تدهور حالته الصحية.
ولم يكن د.بطرس غالى بالإنسان العادى فى كل شىء حيث كان سياسيًا ومفكرًا ومتطورًا ومواكبًا لكل التقدم والتطور السريع الذى يحدث فى العالم كما كان لديه ذاكرة أقل ما يقال عليها أنها ذاكرة حديدية حيث لديه من الأحاديث والتاريخ الموثق لكل الأحداث السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والحياتية بشكل غير مسبوق كما كان لديه من التفكير العلمى لكل القضايا والأزمات التى تمر بها مصر والمنطقة العربية والعالم الخارجى، كما لديه من الصفات الانسانية الجميلة طيبة القلب ونقاءه الصراحة والصدق والثقة بالنفس والقوة فى الدفاع عن كل ما يؤمن به من فكر أو مبادئ وهو ما تحدى به الولايات المتحدة عندما أصر على دفاعه عن الفلسطينيين والتنديد بمذبحه "قانا" ما تسبب فى استخدام "مادلين أولبريت" حق الفيتو وحشد الدول لعدم التجديد له لفترة ثانية فى الأمم المتحدة التى تأهل إليه كأول مصرى عربى أفريقى لهذا المنصب منذ تأسيسه، وخرج من المنصب بعد انتهاء فترته الأولى فى عام 1997 مرفوع الرأس والكرامة بعد إصراره أن يكون أمينًا عامًا محترمًا لا يتبع أحد ولا أحد يملى عليه آرائه أو شروطه أو فكره، هذا هو د. بطرس غالى الذى تخرج فى كلية الحقوق عام 46 ثم حصل على الماجستير والدكتوراه من العلوم السياسية والاقتصاد والقانون العام من جامعة باريس عام 49، وشارك على مدار 5 عقود فى مؤسسات واجتماعات عديدة عن القانون الدولى وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وإنهاء الاستعمار وقضية الشرق الأوسط والقانون الإنسانى الدولى وحقوق الأقليات وعدم الانحيار والتنمية فى منطقة البحر الأبيض المتوسط والتعاون الأفريقى العربى، كما كان له الفضل الأكبر فى المفاوضات المتعلقة بكامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 79 كما ترأس وفود بلده لحضور اجتماعات منظمة الوحدة الأفريقية وحركه عدم الانحياز ومؤتمر القمة لرؤساء الدول الأفريقية وفرنسا والوفد المصرى إلى دورات الجمعية العامة من عام 72 حتى 1990، كما كان رئيسًا للجمعية المصرية للقانون الدولى ورئيسًا لمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية للأهرام منذ عام 75 ومؤسس مجلة الأهرام الاقتصادى الذى تولى رئاسة تحريرها من عام 60 حتى 75 ومجلة السياسة الدولية حتى عام 1991 كما كان أستاذًا للقانون الدولى والعلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعه القاهرة وكلية الحقوق بباريس وجامعة كلومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الجامعات الأمريكية والأوروبية، كما حصل على جوائز وأوسمة من أكثر من 25 بلدًا وأسس منظمة الفرنكوفونية كما كان نائبًا فى البرلمان المصرى عام 87 ووزيرًا للدولة للشئون الخارجية من 77 حتى 1991.
إذن كل ما سبق وأكثر يؤكد قيمة وقامة هذا المصرى المحترم المرموق الذى فقدنا برحيله شخصية مصرية صنعت تاريخًا مشرفًا لمصر والمصريين فى كل مكان ولذلك لابد أن نفخر به وأن يسجل التاريخ المصرى حياته وعمله وسيرته وخبرته العلمية والعملية من أجل أن تتعلم الأجيال الجديدة والشباب ما ينفعهم فى حياتهم وأن تدرس كتبه وأبحاثه ومقالاته وكل أعماله لتنير الطريق لكل طالبى العلم.
وأخيرًا وإن لم يكن معلومًا عنه خفة الظل المصرية البديعة والابتسامة الدائمة التى كانت لا تفارقه حتى فى أصعب اللحظات هذا كله وأكثر بعض من عظمة "بطرس غالى" الارستقراطى ابن العائلات السياسية المصرية الكبيرة وابن مصر البار بها دائمًا وابدًا.