انتهت الرحلة.. وتوقف مشوار العمر وطويت صفحة إنسانية وفكرية وسياسية وصحفية من أهم صفحات التاريخ الحديث فى مصر. مات الأستاذ.. محمد حسنين هيكل أحد أهم وأشهر الصحفيين المصريين والعرب وربما العالم، بل ربما هو الأشهر طوال أكثر من نصف قرن تربع خلالها على عرش الصحافة والكتابة والسياسة، فقد عاش كل الأحداث وعرف كل التفاصيل والقرارات والكواليس والصراعات.
بوفاة هيكل تفقد الصحافة المصرية والعربية أحد أهم رموزها وقاماتها الكبرى وأعمدتها الراسخة الذى اربتطت الصحافة باسمه، وأصبح هو مرادفا للصحافة وللكتابة بعد مشوار طويل لم يتجاوزه أحد حتى الآن منذ عام 49 وحتى شهور قليلة من وفاته بالأمس، وظل هو النجم الذى تتحلق حوله العيون والأذان لتلتقط كل كلمة يرويها وكل تحليل يسرده، وكل فكرة يقولها وكل رأى يستنتجه. قالوا عنه الكثير والكثير ورغم ذلك ظل هو «هيكل الأستاذ» الكلمة التى التصقت به وباتت مرادفا له عندما يقول لك أحد الأستاذ، فلا ينبغى أن تطلق إلا على هيكل فقط ولا أحد سواه. ظل هو هيكل المفكر والمحلل والكاتب الذى يروى عطش الجماهير من المعرفة والتحليلات السياسية، بمعرفة وخبرة واطلاع الصحفى وحنكة السياسى الذى يعرف اتجاهات الأحداث والقضايا ويكتشف ملامح المستقبل، ويستشرف معالمه ويفك تشابكات الحاضر ويربطها بخيوط المستقبل، فهو حالة نادرة جدا ليست فى مصر فقط، وإنما فى العالم التى تتاح له فرصة الاقتراب والالتصاق بالسياسة وقادتها وزعمائها من عبدالناصر إلى نهرو إلى شواين لاين إلى الخومينى إلى ديجول وجاك شيراك وديستان وانتونى ايدنج، فكان أحد أشهر الصحفيين العرب والمصريين فى القرن العشرين الذين شاهدوا الأحداث وشاركوا فيها وأسهموا فى صنعها وصياغتها السياسة فى مصر منذ عهد الملك فاروق حتى وفاته.
أطلقوا عليه كاتب السلطة الأوحد، فذهبت السلطة وبقى بهاء الصحفى الأستاذ هيكل بكتاباته وأفكاره وآرائه ورؤاه. قالوا عنه صديق الحكام والرؤساء وصانع نجوميتهم، فرحل الجميع بسطوة الحكم وزهوة وجبروت السلطة، واستمرت نجومية هيكل الذى صنعها بإصراره وتصميمه وعزيمته وإبداعه وحده.
كل الذين هاجموه ونعتوه بكل الأوصاف من كاتب السلطة إلى صديق الرؤوساء كانوا ينتظرون ماذا سيكتب وماذا سيقول، ثم يحاولون صناعة شهرتهم على حسابه بصياغة كلمات ثملة لا معنى لها تنتقد الأستاذ.. كل من تطاول عليه من أنصاف وأشباه الكتاب و«روبيضة» الصحافة من أجل نيل الشهرة ذهبوا مع الريح ولم يسمع عنهم أحد، وباءت كل محاولاتهم للنيل من «الأستاذ».
وأروع ما قيل فى الرد على منتقدى ومهاجمى الأستاذ ما قاله أنتونى ناننتج وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطانية فى وزارة أنتونى إيدن: «عندما كان هيكل قرب القمة كان الكل يهتمون بما يعرفه... وعندما ابتعد عن القمة تحول اهتمام الكل إلى ما يفكر فيه». آخر كلمات الأستاذ لأبنائه كما قال لى الصديق العزيز الكاتب الصحفى جمال فهمى «انتهت الرحلة.. فلا تعاندوا القدر والطبيعة»، هى كلمات قاسية من رجل أحب الحياة، وتفاءل دائما بالمستقبل، وتشبث بالأمل فى نهضة مصر وعودتها إلى مكانتها التاريخية الرائدة والقائدة فى الوطن العربى وأفريقيا والعالم الثالث. كان دائما ما يبشر فى غد أفضل بطبيعته المتفاءلة المقبلة والمحبة للحياة، لقد قرر «الاستئذان والانصراف بهدوء من الحياة»، امتنع عن الطعام والدواء، إيمانا منه بأنه أدى رسالته وعاش أكثر مما ينبغى منذ ولادته فى سبتمبر عام 1923 فى حى الحسين وبداية عمله فى الصحافة فى الإجشيبشيان جازيت عام 42 ثم ملازمته لصديقه وزعيمه جمال عبدالناصر منذ حرب فلسطين، وقيام ثورة يوليو وحتى وفاته ورئاسته للأهرام عام 57 كأصغر رئيس تحرير فى مصر، ثم خلافه مع السادات وإحالته للتحقيق أمام المدعى الاشتراكى وسحب جواز سفره، وسجنه فى حملة سبتمبر 81 وخروجه من السجن وذهابه فى جولات خارجية كان منتهاها إثراء المكتبة العربية والعالمية بأكثر من 40 كتابا ومؤلفا وآلاف المقالات والكتابات الصحافية والسياسية.
وداعا الأستاذ هيكل.. ستترك وراءك فراغا كبيرا ومهولا لن يستطيع أحد من بعدك أن يملأه، فكل ما يتصدرون المشهد الآن دون ذلك بكثير وكثيرا جدا، لكن عزاءنا رحيلك جسدا وبقاؤك مواقف وأفكارا ورؤى تنير العقل.