أواصل قراءتى للعلاقات المصرية الأمريكية فى جانبها التاريخى، وذلك استنادًا إلى «دائرة المعرفة الدولية خلال الألفية الثالثة».
لفهم النشاط التبشيرى الأمريكى يجب أن نضعه فى إطاره الصحيح، فالتبشير حركة دينية اجتماعية تهدف إلى الدعوة إلى الدين الذى يعتنقه المبشر الأمريكى، البروتستانتية، وفى اعتقاد ونية أى مبشر أن الله سيجزيه على هذا العمل مقامًا رفيعًا بين أقرانه يوم القيامة، تمامًا مثلما فعل المسلمون عندما غزوا مصر والشام وفتحوهما، فهذه حركة تبشيرية كبرى قصد بها المسلمون هداية غيرهم من معتنقى الأديان الأخرى إلى الدين الحنيف، وفى اعتقادهم «المسلمين» أن الله سيجزيهم على هذا العمل، مثلما يظن المبشرون المسيحيون على حد سواء.
ومنذ انتقال الإرسالية الأمريكية من سوريا إلى مصر، والتى وصلتها فى 15 نوفمبر 1854، وهى تتلقى المساعدات من الحكومة المصرية فى أشكال مختلفة، مثل إعفاء الإرسالية الأمريكية من بعض الرسوم، أو منح الإرسالية قطعًا من الأرض لبناء منشآت الإرسالية الأمريكية عليها من مستشفيات ومدارس، كما أمد الاحتلال الإنجليزى المبشرين بشكل عام نوعًا من المساعدة على التبشير، لدرجة أن بلفور، وزير الخارجية البريطانية، كان يعتبر المبشرين فى نظر الاستعمار هم عيونه التى تقوم بإطلاع الدول الغربية على النواحى التى تهمها معرفتها عن عقائد المسلمين وآرائهم، والثقافات التى يتأثرون بها.
وينقسم العمل التبشيرى، سواء كان أمريكيًا أو غيره، إلى ثلاثة أنواع:
1 - التبشير بين الجماعات: وهذا يحدث بالمدارس والمستشفيات، وفى الندوات الدينيية.
2 - التبشير مع الفرد الواحد: وهذا يحتاج إلى مثابرة وصبر، واستعداد للترحاب بالضيف، وإظهار كل إمكانيات الود والصداقة، حتى يأنس إليه الفرد ويثق به، وهنا يصبح آلة مسخرة يكفيها المبشر كما يشاء، ويصل بها إلى النصراينة طواعية واختيارًا.
3 - العمل التبشيرى الصامت، وذلك بتوزيع الكتاب المقدس والنشرات الدينية والصور والأيقونات.
وفى بداية العمل التبشيرى الأمريكى بمصر اتجه المبشرون الأمريكيون إلى تنصير المسلمين، ولما وجدوا صعوبة شديدة فى ذلك، وهو ما أدركه تشارلز روجر حين قال: «إن التغلغل لعقل المسلمين مثل دخول حجرة مظلمة، وهنا اتجه المبشرون الأمريكيون إلى الأقباط لتحويلهم من الأرثوذكسية إلى البروتستانتية، وكان هذا الحل الذى وجدته الإرسالية الأمريكية للخروج من فشلها الذريع فى تحويل المسلمين إلى النصرانية، ولضمان مورد مالى لتكملة جهودهم فى محاولة لتنصير المسلمين مرة ثانية، وفى ذلك استعان المبشرون الأمريكيون ببعض الأقباط المتحولين للبروتستانتية فى عملهم التبشيرى الذى امتد فى شتى قرى ومدن مصر، ففى الشرقية خدم العمل الإنجيلى عبدالمسيح حنا الله، وهو قبطى متحول للبروتستانتية، وقام بالخدمة بشبرا، والقس صموئيل جرجس «1920-1924»، وإبان خدمته تم إرساء حجر الأساس للمبنى الحالى لكنيسة شبرا، الذت تم تدشينها فى 28/9/1923، وخدم بالزقازيق القس حنا مقار، الذى بجهوده تم شراء قطعة أرض فى عام 1929، وعليها تم بناء المبنى الحالى لكنيسة الزقازيق فى عام 1935، وظل حنا مقار يخدم هذه الكنيسة حتى وفاته 1961، وكانت هناك ثلاثة طرق اتخذتها الإرسالية الأمريكية للوصول للسكان الأقباط فى المدن والقرى، هى:
1 - القيام برحلات تبشيرية تجوالية.
2 - التجوال لبيع الكتاب المقدس.
3 - العمل التعليمى عن طريق المدارس.
ففى كل عام كان المبشرون الأمريكيون يقومون برحلات عديدة فى أماكن مختلفة، لتكوين علاقات شخصية مع السكان، ولحث الأقباط الأميين للاستفسار عن الموضوعات الدينية، ولتقديم الكتب المقدسة والآداب المسيحية للبيع، وبذلك يسهل تحويل الأقباط إلى البروتستانتية، وذلك لأن وصول المسيحية للإسلام فى مصر يكمن من خلال تبشير الأقباط، وإنعاش الكنيسة الوطنية، وهو العمل الذى ركزت عليه طويلاً الإرسالية الأمريكية للكنيسة المشيخية المتحدة لشمال أمريكا The American Mission of threeunited Presbyterians، وهى الإرسالية التى كانت تتولى أمر التبشير فى مصر، من أجل كسب الأقباط للإنجيلية المسيحية، ولتحقيق هذا الهدف استقلت كنيسة وطنية «مصرية» بروتستانتية قوية، فعندما اشتد عود هذه الكنيسة استقلت عن الكنيسة الأم، الكنيسة المشيخية، وقد تم الاستقلال على عدة مراحل، بدأت فى عام 1908، حيث بدأ الاستقلال المالى الإدارى فى عام 1926، وأصبحت الكنيسة القبطية الإنجيلية كنيسة مستقلة، ولكنها كانت عضوًا فى المحفل العام للكنيسة المشيخية الأمريكية، وفى عام 1958 أنهت الكنيسة الإنجيلية علاقتها بالمحفل العام الأمريكى، وأصبح سنودس النيل الإنجيلى هو المحفل العام للكنيسة القبطية الإنجيلية.
وعلى الرغم من فشل المبشرين الأمريكيين فى بداية الأمر للعمل بين المسلمين، واتجاههم نحو الأقباط، فإنهم لم ييأسوا فى تبشير المسلمين، وظهر ذلك من خلال أعمال مؤتمر حلوان التبشيرى، الذى عقد فى 1924، ومؤتمر القدس الذى عقد فى نفس العام، حيث دعا المؤتمرون إلى ضرورة تبشير المسلمين، وذلك من خلال توحيد جهود جميع المبشرين العاملين فى مصر. وأشار مؤتمر القدس إلى نقطتين مهمتين تتعلقان بأساليب التبشير، أولهما خطأ المبشرين، إذ كانوا يستغرقون من قبل فى نقد الإسلام وإظهار ضعفه أكثر مما يكشفون عن قوة المسيحية، وثانيهما أن التبشير أكثر فاعيلة وحسمًا بين الأطفال، لأن تعليم الديانة الإسلامية وترسيخها يتم بين المسلمين فى سن مبكرة جدًا، لذلك وجب أن يكون التبشير من خلال التعليم هو النشاط الأساسى للمبشرين فى البلاد الإسلامية، ونادى مؤتمر حلوان بتكوين قيادة قوية من المبشرين والقساوسة والمدرسين لتعبئة كل القوى المسيحية فى مصر لهداية المسلمين.. «يتبع»