«ربما جاء يوم نجلس فيه معا، لا لكى نتفاخر ونتباهى، ولكن لكى نتذكر وندرس ونعلم أولادنا وأحفادنا جيلا بعد جيل، قصة الكفاح ومشقة ومرارة الهزيمة وآلامها وحلاوة النصر وآماله، نعم سوف يجىء يوم نجلس فيه لنقص ونروى ماذا فعل كل منا فى موقعه، وكيف حمل كل منا الأمانة، وكيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة فى فترة حالكة، ليحملوا مشاعل النور، وليضيئوا الطريق حتى نستطيع أن نعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء».. تلك الكلمات التى تلهب المشاعر الوطنية، كانت جزءا من خطاب الرئيس السادات رحمه الله أمام البرلمان المصرى، بعد أيام من نصر أكتوبر المجيد فى العام 1973.
فسيبقى تاريخ السادس من أكتوبر، مدعاة لفخر أمة عبر الأجيال، حيث ترتفع الهامات بنشوة انتصار الأجداد وصناعتهم الأمجاد، فقد كان فى «يوم كيبور» أى عيد الغفران، وهو أحد أعياد إسرائيل، فهو يوم مقدس مخصص للصلاة والصيام، هذا اليوم هو الذى وقع الاختيار عليه من قبل قادة الجيش المصرى لبدء «العملية بدر» الاسم الكودى لعملية يوم السادس من أكتوبر 1973م، بزحف القوات المسلحة المصرية على قناة السويس والاستيلاء على خط بارليف، وبدء التوغل البرى فى عمق الأراضى المحتلة من العدو فى أرض الفيروز.
فمهندس حرب أكتوبر، الذى تم تصنيفه ضمن أبرع 50 قائدا عسكريا فى تاريخ العالم، «الجنرال النحيف المخيف»، كما وصفته «جولدا مائير»، المشير محمد عبد الغنى الجمسى، رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة خلال حرب أكتوبر، يقول: «وضعنا فى هيئة العمليات دراسة على ضوء الموقف العسكرى للعدو وقواتنا، وفكرة العملية الهجومية المخططة، والمواصفات الفنية لقناة السويس، درسنا كل شهور السنة لاختيار الأفضل منها لاقتحام القناة، على ضوء حالة المد والجزر، وسرعة التيار واتجاهه، واشتملت الدراسة أيضا، جميع العطلات الرسمية فى إسرائيل، بخلاف يوم السبت، وهو يوم إجازتهم الأسبوعية، حيث تكون القوات المعادية أقل استعدادا للحرب، وجدنا أن لديهم ثمانية أعياد، منها ثلاثة أعياد فى شهر أكتوبر، وهى: يوم كيبور، وعيد المظلات، وعيد التوراة، وكان يهمنا فى هذا الموضوع معرفة تأثير كل عطلة على إجراءات التعبئة فى إسرائيل، ولإسرائيل وسائل مختلفة لاستدعاء الاحتياطى بوسائل غير علنية، ووسائل علنية تكون بإذاعة كلمات أو جمل رمزية عن طريق الإذاعة والتليفزيون، ووجدنا أن يوم كيبور، هو اليوم الوحيد خلال العام الذى تتوقف فيه الإذاعة والتليفزيون عن البث كجزء من تقاليد هذا العيد، أى أن استدعاء قوات الاحتياط بالطريقة العلنية السريعة غير مستخدم، وبالتالى يستخدمون وسائل أخرى تتطلب وقتا أطول لتنفيذ تعبئة الاحتياطى، وكان يوم عيد الغفران 6 أكتوبر 1973 أحد الأيام المناسبة، وهو الذى وقع عليه الاختيار».
ليصادف أيضا شهر أكتوبر حلول شهر رمضان الكريم، وهو شهر الصيام الذى يُستبعد فيه من وجهة نظر العدو أى تحرك عسكرى مصرى، مما ساعد على الخداع الاستراتيجى، أما بالنسبة لساعة الصفر، فقد حُددت الساعة 2 ظهرا، بحيث تكون الشمس قد مالت نحو الغروب، وأصبحت أشعتها خلف المدفعية المصرية، وفى مواجهة العدو مباشرة لتحرق أعينهم، كما أُخذ فى الحسبان أن هذا اليوم يتميز بأن ضوء القمر سيكون ساطعا فى النصف الأول من الليل، وسيكون مظلما فى النصف الثانى، بحيث تنتهى وحدات سلاح المهندسين من إنشاء وتركيب الكبارى فى ضوء القمر، ليستمر تدفق المدرعات والدبابات المصرية إلى الضفة الشرقية تحت جنح الظلام، فكم كان يحمل اختيار ساعة الصفر من عمق فى التفكير الاستراتيجى، فنحن نحتاج إلى مليارات الكلمات التى ستقف عاجزة عن وصف، ليس بطولات، وإنما معجزات الجيش المصرى فى نصر أكتوبر.
حرب أكتوبر تُعد معجزة عسكرية تدرس عملياتها فى أكبر وأعرق الأكاديميات العسكرية فى العالم، فإننا لم نستطع حتى الآن أن نفى ونحفظ فى ذاكرة الوطن أسماء كل الأبطال الذين صنعوا المعجزات على أرض سيناء المباركة التى ما زالت تعانى من إرهاب مرتزقة الإخوان، غافلين عن أن لمصر جيشا يحميها، وأن أبناءها الأبرار صنعوا ثورات عظيمة استلهموها، مما فعل أجدادهم من بطولات فى حرب أكتوبر المجيدة، وأن أرواح الآلاف منا لهى أرخص بكثير من شبر واحد من الأرض التى رُويت وما زالت تُروى بدماء أنبل بل أعظم من أنجبت مصرنا الغالية، فالجيش المصرى هو أول جيش نظامى عرفه تاريخ البشرية، وهو درع الوطن وسيفه، والجيش العربى الوحيد القادر على الردع، ورحم الله كل شهداء الوطن فى كل العصور من حطين وعين جالوت إلى معركة أكتوبر العظيمة حتى معارك حق الشهيد.
فلم يكن نصر أكتوبر صدفة ولا حماسة شعب، وإنما إرادة أمة من فلاذ لا تقوى على وصفها الكلمات، فكلمة السر كانت فى المارد «الجندى المصرى»، فقد كان العدو يملك من السلاح والتفوق التكنولوجى ما كان يجب بالحسابات العسكرية أن يحقق له النصر، إلا أن المارد المصرى قد أربك كل المعادلات وهدم كل الحسابات، ليصنع بشهادة جنود العدو ما لا يتصوره البشر، من ملاحم التضحية والشجاعة والفداء، وهو ما دفع أعداء هذه الأمة إلى تغيير استراتيجية المواجهة الواضحة من تنافس التسليح والحرب المباشرة، فعمدت إلى حرب من نوع آخر يستهدف مناطق قوة مصر وهو العنصر البشرى، فعملوا على مدار عقود منذ حرب أكتوبر على تخريب الجماعة البشرية المصرية، ووأد الانتماء بداخل أجيال الشباب، وصرفهم إلى السعى نحو نماذج غربية أخرى توسوس بأحلام الغناء الفاحش ورغد العيش، مع رؤية لدى العدو بعدم محاولة الاحتلال العسكرى لمصر إلا بعد انتهاء جيل أكتوبر، ليفاجئ بالمارد أنه مازال حيا فى وجدان الأمة، ومازال يقدم أبناء هذا الوطن التضحيات والبطولات فى سيناء الغالية حتى اليوم.