لأنها حكايات أسطورية يصبح ضروريا أن تروى لأجيالنا الحالية ليعرف الأحفاد حقيقة ما فعل الأجداد، فمن مآثر الجندى المصرى أنه اعتمد فى كل الأحوال على إرادة قوية وعقيدة إيمانية وعسكرية راسخة من فجر التاريخ وحتى يومنا الحالى ليضرب أروع الأمثلة فى التحدى والفداء، فبالروح والدم دفع المصريون "جيشا وشعبا" الثمن غاليا فى ساحات النضال والشرف، منذ العدوان الثلاثى 31 أكتوبر 1956) ومرورا بالنكسة فى (1967)، وحرب أكتوبر المجيدة (1973) التى نعيش ذكراها الـ 44، وحتى حرب الإرهاب الحالية، سجل الجندى المصرى أروع البطولات العسكرية، نخص بالذكر منها فى مقالنا هذا تلك البطولات القادمة من زمن الهزيمة والتى قادت إلى النصر، وقهرت العدو بأقل الإماكانات لتصير نموذجا يحتذى ويدرس فى أعرق الأكاديميات العسكرية فى العالم.
"إيلات" استردت الكرامة
فى أعقاب نكسة 1967، قام الجيش المصرى بإعادة بناء قواته العسكرية، لرد اعتبار مصر جراء النكسة، وبدأ الجيش فى شن عمليات عسكرية من فترة لأخرى عُرفت بـ"حرب الاستنزاف"، مما كان حافزًا لمعنويات الضباط والجنود، التى كسرت على أبواب سيناء فى النكسة، فقامت البحرية بثلاث عمليات صنعت ملاحم عسكرية رائعة فى استرداد الكرامة، وتتلخص جوانب الملحمة فى تدمير السفينتين "هيدروما" و"دالى"، والتى بدأت عملياتها من يوم 15و16 نوفمبر 67، حيث قام بها القبطان عمر عزالدين والقبطان حسنين جاويش، والقبطان نبيل عبد الوهاب ومعهم 3 صف ضابط وهم "محمد العراقى، وعادل الطراوى، والشهيد محمد فوزى البرقوقى" من خلال سمفونية رائعة اشتركت فيها جميع الأجهزة بنفس القدر دون نشاز.
"سيد الشرقاوى"
يظل لبطولة معركة "رأس العش" دلالة رمزية فى تاريخ قواتنا المسلحة كما حكى لى أحد أبطال الصاعقة المصرية باعتبارها كانت أيقونة الأمل لاستعادة الروح المعنوية لجيشنا فى أعقاب النكسة مباشرة حتى صارت تلك المنطقة رمزا لصمود مقاتلى الصاعقة والتى حكى لى أحد أبطالها قائلا: فى منطقة سبخية تقع بين جنوب بور فؤاد وحتى شمال البحيرات المرة فى الإسماعيلية، كانت هناك فصيلة من الكتيبة 43 صاعقة تضم 30 مقاتلا فقط، يقودهم ضابط برتبة نقيب يدعى "سيد الشرقاوى" ساقتهم الأقدار ليقوموا بتأمين المعبر الموجود فى هذا المكان، لكن إصرار الشرقاوى وصموده حتى ليلة 30 يونيو 1967 ضرب أورع الأمثلة فى التحدى، فحين أمروه بالانسحاب رفض ذلك قطعيا بدعوى أن هناك جنود عالقين فى الطريق، لكن الاسرائيليين ليلة 30 يونيو قرروا القضاء على هذا الجيب، ومع دخول أول سرية دبابات إسرائيلية مكونة من 10 دبابات، ومع حركة الصاعقة السريعة، فضلا عن أن الأرض كانت ملغمة فقد خسروا ثلاثة دبابات وعادوا إدراجهم، معتقدين أنهم أمام قوة كبيرة منظمة ومسلحة بشكل يصعب معه سقوطها بسهولة، كما كانوا يعتقدون من قبل، ثم عادوا بكتيبة دبابات مجهزة بتقنيات وعتاد أكبر، لكنه فصيلة صاعقة "الشرقاوى" كانت عصية، وهو ما تزامن مع نشر الصحف المصرية جانبا من بطولة رأس العش كنوع من بصيص الأمل الذى يزرع الثقة فى القوات العائدة من الهزيمة.
عند هذا الحد بدأت القيادة تنظر إلى ضرورة استخدام قوات الصاعقة برأس العش فى تنفيذ بعض العمليات التى تعكس كفاءتها القتالية فى ظروف صعبة، وكان هذا نوعا من الاستثناء وليس قاعدة يمكن البناء عليها، ومن ثم قاموا بإمداد الشرقاوى بكتيبة مظلات لتزويد القدرات القتالية فى منطقة "رأس العش" التى أصبحت أسطورة عسكرية مصرية يشار لها بالبنان، وفى أعقاب تطور الكفاءة القتالية فى "رأس العش" وحفاظها على سلامة المنطقة تم تبديلها بكتبة مشاة ثم لواء كامل، ظلت هذه هى النقطة الوحيدة شرق القناة التى لم يدخلها الاسرائليين حتى حرب أكتوبر 1973، ولذلك تم استغلالها فى تطوير ميدان القتال على مستوى القوات البرية، ومن هنا يمكن القول بأنه: "وسط ظلام وكآبة الهزيمة زرعت قوات الصاعقة المصرية بذور الأمل كمفتاح لبطولات تالية فى حرب الاستنزاف التى صنعت نصر أكتوبر العظيم".
"النقيب تلعب"
ومن دفتر بطولات زمن الهزيمة أحكى لكم عن النقيب صاعقة "محمود تعلب"، والذى اشتهر بتنفيذ عمليات خلف خطوط العدو، فحين كانت القوات المسلحة تفكر فى لملمة الشمل كله للتجهيز للعبور والحرب الشاملة، وهذه التعمليات فى العادة لا تنمو لعلم صغار الضباط، وهو ماتزامن فى ذلك الوقت مع مرحلة الخداع السياسى بقبول "مبادرة روجرز"، لكن "النقيب تعلب" لم يكن مؤمنا بكل ذلك، بل اعتبره نوعا من الاستسلام من جانب القيادة السياسية، ودون اتخاذ أوامر مباشرة بالعبور لتنفيذ عمليات، كان يقوم بعد ظهر كل يوم بلف "أر بى جى" مع خمس أو ست دانات مع عدد صغير من البنادق فى كيس بلاستيك ويقوم بعبور القناة فى الليل إلى الضفة الشرقية ليفجر تلك الدانات ويغطى انسحابه بالبنادق إذا تعرض لنوع من الاستهداف فى رحلة العودة .
وعلى أثر عمليات "تعلب" تلك تعيش القوات المصرية على الضفة الغربية للقناة ليلة من القصف الإسرائيلى العشوائى من مدفعية العدو على الضفة الشرقية للقناة ردا على ماحدث، ومن جانبها تقوم القيادة المصرية بتوجيه اللوم له وتهديده بالمحاكمة العسكرية، لكن ذلك لم يثنه عن القيام بمهام جديدة رغم تعرضه للتحقيق فى أعقاب كل عملية، والعجيب فى الأمر أن الذى يحقق معه فى الصباح كان يتوقع قيامه فى الليل بمهمة جديدة، ومن شدة التأثير السلبى لعمليات " تعلب " تلك أصبح معروفا بالإسم لدى الإسرائيليين الذى علموا بهذه البطولات الفردية، ومن ثم تعالت مكبرات الصوت الإسرائيلية أعلى الساتر الترابى للضفة الغربية معربة عن سب " تعلب " بأقظع الشتائم فى محاولة لإثنائه، حتى أنهم قاموا بوضع صوره على النقطة التى كان يستهدفها فى عبوره لقتله وليس القبض عليه كأسير حرب .
لسان التمساح
فى إطار معاقبة الموقع الصهيونى الذى خرجت منه الدانة التى تسببت فى استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض يوم 9 مارس من العام نفسه، فى أثناء حرب الاستنزاف وتحديدا فى 19 أبريل عام 1969، وبأوامر شخصية من الزعيم جمال عبد الناصر، قامت قوات الجيش بتنفيذ عملية "لسان التمساح" البطولية من خلال "المجموعة 39 قتال" بقيادة الشهيد إبراهيم الرفاعى، حيث استطاع أبطال الصاعقة المصرية قتل كل جنود العدو فى الموقع ورفع العلم المصرى عليه، والعودة بالعديد من الأسلحة وذخائر العدو دون وقوع أى إصابات كبيرة فى صفوف أبطال الصاعقة المصرية.
ومنذ ذلك التاريخ أنشأت "المجموعة 39 قتال" عقب نكسة يونيو 67 تحت قيادة "الرفاعي" وتألفت من مزيج من قوات الصاعقة البرية والبحرية، واختار الشهيد البطل رجاله من المشهود لهم بالكفاءة والشجاعة، حيث كان هو المدرب والمخطط والأخ والصديق لكل جندى مقاتل ولكل ضابط بها، وعرف عنه الصرامة الشديدة أثناء التدريب لأن الخطأ فى المعركة ثمنه حياة الفرد ومن معه، بالرغم من عطفه الشديد وحبه لرجاله، فلم يكن الرفاعى يكلف أحد من رجاله بعمل إلا إذا كان هو شخصياً قادراً على فعله ويكون أول من يقوم به.
جزيرة شدوان
شهدت هذه المعركة بطولات نادرة، من خلال ملحمة شعبية تقاسم فيها أبناء محافظة البحر الأحمر مع جنود القوات المسلحة الصمود أمام قوات الاحتلال يوم 22 يناير عام 1970، وبلغ من عنف المقاومة المصرية أن القوات الإسرائيلية لم تتمكن طوال 36 ساعة من الإقتراب من القطاع الذى يتركز فيه الرادار البحرى على الجزيرة، حيث قامت القوات الإسرائيلية بهجوم ضخم على الجزيرة جوا وبحرا، كذلك هاجموا مساكن المدنيين الذين يقومون بإدارة هذا الفنار، وكان هناك مجموعة صغيرة من الصاعقة المصرية البحرية والبرية لحراسة الفنار الذى يقع جنوب الجزيرة، ورغم اعتراض الطائرات الإسرائيلية جوا و"لنشاتها" بحرا، إلا أن أبناء المحافظة لم يتخلوا عن قواتهم وقاموا بتوصيل الذخائر والمؤن والأسلحة فى مراكب الصيد من شاطىء الغردقة إلى جزيرة شدوان.
واستمر القتال بين كتيبة المظلات الإسرائيلية وأفراد الصاعقة المصرية الذين خاضوا المعركة ببسالة وأحدثوا خسائر جسيمة بقوات العدو، كما تمكنت وحدات الدفاع الجوى المصرى من إسقاط طائرتين للعدو، من طرازى "ميراج" و"سكاى هوك"، وظل العدو يتقدم لاقتحام مواقع قوة الحراسة فى جنوب الجزيرة، وكانوا يطلبون من القوة المصرية أن تستسلم، إلا أنهم رفضوا وقاتلوا ببسالة وشجاعة ورغم القصف الجوى العنيف، واستمر العدو فى محاولاته للسيطرة على الجزيرة ومنع الإمداد الذى يأتى للجنود المصريين من خلال البحر، لكنهم فشلوا رغم تفوقهم العددى والقصف الجوى العنيف والامدادات الكثيرة التى كانت تأتى إليهم، وفى النهاية انسحبوا يجرون أذيال الخيبة.
الملازم "عرفة عبده عرفة"
كان لابد من كسر الحاجز النفسى للجيش المصرى بخصوص عبور قناة السويس، ومن هنا بدأت قواتنا المسلحة بعمليات صغيرة خلف خطوط العدو من خلال الصاعقة، وهنا نذكر أن أول من قام بذلك هو الملازم أول "عبده أحمد عبده عرفة"، والذى قام بأكثر من عشرين عملية، فقد استقبل هذا الأمر بنوع من الدهشة بادئ الأمر، خاصة أنه سيقوم بالضرب على مرمى السلاح، ولا يرى ملامح من يقتله فكيف يتم ذلك؟، لكن قبل تنفيذ أى عملية كان الأبطال العابرون للقناة يقومون بتشكيل فريقين، إحداهما للهجوم وإصابة الأهداف والثانى معاون لايشترك فى القتال ومعه فقط حبال ليقوم بالتقاط من يشرد عن الدورية المستهدفة بعد أن يقوم الفريق الأول بتحويل النيران بعيدا عنهم، وعلى مستوى البطولة الفردية عبر "عرفة" القناة فى إحدى العمليات فى اتجاه الساتر الترابى على الضفة الشرقية، واستطاع أسر جندى من أصل عراقى اسمه "إدموند هارون" كان قد شرد عن زملائه ودخل فى عمق المياه هربا من القصف القادم من نيران الصاعقة، وعادوا بالفعل بعد المهمة بالأسير كى يثبتوا للإسرائليين قدرتهم على اختراق النقاط الحصينة وتنفيذ عملياتهم بنجاح يبعث على رعبهم.