عاتبنى العم والأستاذ أحمد يحيى، لأننى لم أتناول حرب الاستنزاف، ونحن نحتفل بانتصارات حرب أكتوبر 1973، وكتب لى: «أتمنى أن يشمل قلمك الحديث عن حرب الاستنزاف التى سبقت حرب أكتوبر ودورها فى التهيئة للحرب، حيث أرى أن حرب الاستنزاف هى العامل الأساسى فى تحقيق النصر وإحداث الارتباك لدى الصهاينة، لما واجهوه من مفاجآت من قوات الصاعقة وقوات العمليات الخاصة.. وأنا أشعر بأن حرب الاستنزاف لم تأخذ حقها فى الحديث عنها، وأن إهمالها كما لو كان متعمدا.. وشكرا».
العم الأستاذ أحمد يحيى أحد كبار مدينتى طوخ، وسجله الوطنى محترم وكبير، ولأنه كذلك فهو غيور على تاريخ مصر بشهدائها، الذين دافعوا عن الأرض، ولهذا يتمنى أن تعرف الأجيال حقيقة حرب الاستنزاف، التى تتعرض لعملية غدر من البعض، بالرغم من أنها إحدى صفحات الشرف للعسكرية المصرية.
أرادت إسرائيل ألا يتذكر هذه الحرب أحد، لأنها تذكرهم بما لا تحب أن تتذكره، ولا تحب أن يتذكر العرب بأن لهم حربا انتصروا فيها، وبكل أسف تبنى هذا المنطق مصريون صغار النفوس، فنزلوا عليها تشويها، وذلك بغرض الثأر من جمال عبدالناصر الذى قاد هذه الحرب بعد هزيمة 5 يونيو 1967 كخطة استنزاف لإسرائيل، حتى تحين لحظة الحرب الكبرى، وامتد هذا المنطق إلى عرب متصهينيين.
الغريب أن هؤلاء جميعا لا يقولون ما يقوله قادة إسرائيل، الذين عاشوا وقادوا هذه الحرب، فبينما هم يمنحون إسرائيل نصرا مجانيا فيها، يقول قادتها عكس هذا تماما، ويكفى ما قاله عنها الجنرال عزرا وايزمان الذى كان وزيرا للدفاع الإسرائيلى ثم رئيسا للدولة، ففى كتابه «النسور الزرقاء» قال: «إن حرب الاستنزاف التى سالت فيها دماء أفضل جنودنا، مكنت المصريين من اكتساب حريتهم على مدى ثلاث سنوات للتحضير لحرب أكتوبر العظمى فى عام 1973، وعلى ذلك فإنه سيكون من الغباء أن نزعم أننا قد كسبنا حرب الاستنزاف، وعلى العكس من ذلك، فإن المصريين- بالرغم من خسائرهم- هم الذين حصلوا على أفضل ما فى هذه الحرب، وفى الحساب الختامى، سوف تذكر حرب الاستنزاف على أنها أول حرب لم تكسبها إسرائيل، وهى الحقيقة التى مهدت الطريق أمام المصريين لشن حرب الغفران «6 أكتوبر»، شهادة «وايزمان» ليست هى الوحيدة فى هذا المجال، فهناك شهادات أخرى، وجميعها تتفق على هزيمة إسرائيل فيها، وتتفق على أنها كانت البروفة العملية لحرب أكتوبر 1973 وبسالة الجندى المصرى فيها، وهى كما قال الفريق عبدالمنعم واصل قائد الجيش الثالث فى حرب أكتوبر، وأحد الرموز التاريخيين للعسكرية المصرية فى مذكراته «الصراع العربى الإسرائيلى»: «إن حرب الاستنزاف هى الأب الشرعى لنصر أكتوبر 1973، وكان لآثارها الإيجابية دور مهم للغاية فى تجهيز القوات المسلحة لحرب أكتوبر، فحرب الاستنزاف بمراحلها المتصاعدة حافلة بالكثير من التجارب والدروس التى استفاد منها المخطط المصرى فى التحضير والإعداد والتخطيط لحرب أكتوبر، كما استفاد منها الضابط والجندى المصرى فيما نسميه بـ«التطعيم للمعركة»، فالقتال بكل أشكاله البدائية أو الحديثة هو فى البداية تهديد لحياة الفرد، وهو ما يدفع إلى الخوف على النفس كشعور أولى، والمقاتل الناجح هو من يعبر هذه المرحلة بأسرع ما يمكن، ويحول الشعور بالخوف إلى الرغبة فى الدفاع عن النفس التى لا تتأتى إلا بالإصرار على قتل العدو، فإذا اقترنت هذه العملية المتسلسلة بالتصميم والإرادة والتخطيط الجيد، كان النصر على العدو، وكان هذا تماما هو ما حدث فى حرب الاستنزاف».
وغدا نتابع.