سأل أحد الشباب المرحوم الشيخ محمد الغزالى عن حكم تارك الصلاة فأجابه بقوله: "حكم تارك الصلاة أن تقنعه بالصلاة وتأخذه معك إلى المسجد"، وبهذه الإجابة العبقرية لخص له الغزالى ما ينبغى عمله مع تارك الصلاة، وهو أهم من الحكم عليه هل يكفر بذلك أم لا يكفر؟ وهل هو كفر أكبر أم أصغر؟ وهل يقاطعه أو لا يقاطعه؟ إلى هذه التفاصيل التى تهتم بالحكم النظرى دون إرشاد للشاب على ما ينبغى عمله واقعياً .
لقد جاء كل نبى من الأنبياء ليتعامل مع واقعه وواقع قومه لا أن يتعامل مع واقع مفترض يتخيله هو.. فالماوردى فقيه عظيم عاش فى ظل السلاطين ولم يعش فى عصر الخلافة، فكتب كتابه العظيم "الأحكام السلطانية" ولم يسمه "أحكام الخلافة" لأنها ليست موجودة فى الواقع، ولكنه أراد أن يجمع بين الواجب والواقع جمعاً لا يخل بأحدهما، وحاول أن يقرب السلطان من القرآن والكتاب من الحديد، ولم يأمر السلطان أو يلزمه بإعادة نمط الخلافة لأنه يدرك أنه لن يستطيع ذلك، فلم يطلب من الحكام المحال ولكنه حاول سوقهم إلى الحق والخير .
واليوم يبدأ الشاب فى التدين، يصلى باستمرار، يخشع فى صلاته، يقرأ القرآن ويسعى لحفظ ما تيسر منه، يجلس مع أصدقاء المسجد أكثر مما يجلس مع والديه، يهتم بأمور أصدقائه وقضاء حوائجهم والسير فى ركابهم وتنفيذ أوامر شيخه أكثر من تنفيذ رغبات والديه، يعتقد أن والديه يمثلان الدنيا وشيخه وأصدقاء المسجد يمثلان الدين، وقطعاً ويقيناً أن الدين أبقى وأهم من الدنيا وبهذه الفلسفة المغلوطة لا يجد مشكلة فى تقديم شيخه على والديه.. فإذا طلبت منه أمه شيئاً لم يهتم به فى الوقت الذى يسعى بكل طاقته إلى إنفاذ أوامر شيخه سريعاً .لقد غفل هذا الشاب عن "فقه الأولويات" الذى يجعل رضا الوالدين وبرهما فى مرتبة تلى عبادة الله مباشرة، فبر الوالدين قبل بر شيخه أو المسئول عنه فى الجماعة، ورضا الوالدين أهم من رضا الجماعة التى ينتمى إليها .
إن دراسة فقه الواقع وربطه بالواجب الشرعى يجعل الشباب المتدين يبتعد عن الكثير من المتاعب والمشاكل التى يتعرض لها.. ويمنعه من الانفصال عن واقعه والعيش فى الحكم المجرد واختيار ما يناسب واقعه من الأحكام الشرعية دون التفاف على الشريعة أو اصطدام بها أو التحطم على صخرة.
إن بعض الشباب المتدين حينما يتعامل مع المرأة مثلاً، يتعامل معها عبر نص واحد فى القرآن وهو قوله تعالى "وقرن فى بيوتكن" دون أن يعطى نفسه فرصة التجول والتأمل فى نصوص أخرى كثيرة ليدرك أن البنت منذ أكثر من 30 قرناً من الزمان خرجت مع أختها للسقاية لحاجة أسرتها وليست للضرورة القصوى كما يتصورون.. وهى التى أشارت على أبيها شعيب أن يستأجر موسى عليه السلام قبل نبوته "قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِى الْأَمِينُ"، فالإسلام لا يريد المرأة متحررة فاسدة ماجنة ولا متقوقعة محنطة ساذجة، فالشريعة الغراء أباحت لها أن تخرج لحاجتها أو حاجة أسرتها أو مجتمعها إليها .
إن الأنبياء تعاملوا مع واقعهم وقرأوه قراءة صحيحة وتفاعلوا مع مشكلاته وركزوا على أهمها وأكثرها خطراً ، فسيدنا لوط مثلاً أدرك أن أزمة قومه هى التخنث والشذوذ الجنسى فلم يركز إلا على هذه القضية بعد عبادة الله، وسيدنا شعيب كانت أزمة قومه تكمن فى الفساد الاقتصادى فركز عليها دون سواها، أما هود فأدرك طغيان قومه وجبروتهم وبطشهم فقصر جهده على هذه القضية، وأما موسى عليه السلام فقد أدرك أن قضيته الكبرى تكمن فى نجاة بنى إسرائيل من بطش فرعون فركز على هذه القضية وحدها: "أن أرسل معى بنى إسرائيل ولا تعذبهم"، فهؤلاء الأنبياء عليهم السلام عاشوا واقعهم وتفاعلوا معه أعظم التفاعل، وجمعوا بين واجب الشريعة وما يصلح البلاد والعباد فنجحوا فى رسالاتهم.. اللهم أهدنا للجمع بين الواجب الشرعى والواقع العملى جمعاً صحيحاً .