أواصل قراءتى للعلاقات المصرية الأمريكية فى جانبها التاريخى، وذلك استنادًا إلى «دائرة المعرفة الدولية خلال الألفية الثالث»: وتزايدت خطورة المشكلة التبشيرية، عندما فضح الشاب الفلسطينى عبدالقادر موسى كاظم الحسينى- الذى كان طالباً نابهاً بالجامعة الأمريكية- الدور التبشيرى لتلك المؤسسة بشكل علنى وبصورة بالغة الجرأة، ففى يوم احتفال الجامعة السنوى بتسليم شهاداتها للمتخرجين، الذى كان عبدالقادر واحداً منهم- ولما بدأ الحفل بتسليم الشهادات نودى على عبدالقادر- لتسلم شهاداته ولكنه ما أن تسلمها حتى مزقها على مرأى من الجميع، وصاح فى وجه رئيس الجامعة قائلاً: «إنى لست فى حاجة إلى شهادة معهدكم الذى هو معهد تبشيرى واستعمارى»، ثم ألقى الطالب عبدالقادر خطبة قصيرة حمل فيها على التبشير والاستعمار وختمها بالهتاف لفلسطين وشعبها، وأصاب رئيس الجامعة الذهول من هول المفاجأة، كما ذهل المحتفلون الذين لم يلبثوا أن صفقوا للطالب الفلسطينى، وهتفوا بحياته، وهو يغادر مكان الاحتفال قبل انتهائه، وكانت هذه الحادثة هى البداية الحقيقية لفضح نشاط الجامعة الأمريكية التبشيرى بالقاهرة.
والواقع أنه يجب النظر إلى هذا الحادث ليس فقط فى دلالاته التبشيرية، التى أفصح عنها الطالب الفلسطينى «عبدالقادر»، ولكن يجب النظر إليها أيضاً فى ضور تطور القضية الفلسطينية ودعم الغرب الاستعمارى وأمريكا للقوى الصهيونية، وهو الأمر الذى جعل الطالب الفلسطينى يربط فى خطبته بين الاستعمار والتبشير وهتافه لفلسطين، حيث إن قضية التبشير المعنية الجامعة الأمريكية لا تربط بفلسطين بل بمصر، حيث إن مقر الجامعة بالقاهرة وليس فى فلسطين، فإن ذلك يؤكد وجهة نظرنا أن المسألة خاصة بتطور القضية الفلسطينية بشكل عام، وقد أتى التبشير عرضاً ليفضح الطالب الاستعمار الغربى، ويلفت النظر إلى المسألة الفلسطينية.
والواقع أن هذا الحادث قد استفز الرأى العام المصرى، فهاجمت صحيفة البلاغ- الصحيفة الوفدية- الجامعة بتوضيح الخلفية التبشيرية لتشارلز واطسن Charles Watson رئيس الجامعة الأمريكية، وقالت: إن الجامعة مكان يتعلم فيها المبشرون، كيف يهاجمون الإسلام ووصفت مقررات الجامعة فى علم النفس والاجتماع وعلم الأخلاق كغطاء لذلك، وأن الجامعة بهذا تسعى لنشر البغضاء لسوء الفهم واضطرام الحروب وأنها تنظر للإسلام كدين للبرابرة، الذى يعلم الحروب واللصوصية، وأن الشرق سوف لايتقدم ولا يصبح سعيداً إلا بترك هذا الدين، ونشرت صحيفة السياية كذلك معارضتها فى 31 مايو، حيث عرضت ملخصاً لكتاب مشاكل الأديان Problem of Religion تأليف ديورانت دراك Durant Drak الذى كان يدرس فى الجامعة والذى يسىء للإسلام ورسوله، ونشرت الجهاد «الجريدة الوفدية» فى 2 يونيو، مقالاً عن كتاب دراك، وأكدت أن الجامعة الأمريكية خسرت أكثر من نشر تلك الكتب ونشر ذلك النوع من التعليم بين الطلاب، وأنها تحتاج الآن وفى المستقبل جهوداً جبارة من أجل إرجاء الثقة القديمة للمسلمين وحتى للمسيحين غير البروتستانت، وأنه ثبت أن غرض هؤلاء الأمريكين الأثرياء الذين أنشأوا الجامعة، لم يكن للأغراض العلمية فقط، وإنما فى الحقيقة لإفساد العقائد وتدمير الإيمان وتحويل الشباب الصغار عن أديانهم بمختلف الطرق، والوسائل كما طالبت السياسة فى 5 يونيو بإنشاء مدرسة للدراست الإسلامية طبقاً للأفكار التقدمية للسيخ محمد عبده، كما نشر شيخ الأزهر محمد الأحمدى الظواهرى نداء للمسلمين قال فيه: «إنه فى الوقت الذى أستنكر فيه هذه الأعمال أشد الاستنكار، من غير أن أتعرض إلى الحوادث التى بين يدى القضاء أوجه نظر الآباء المسلمين ومن فى حكمهم إلى أنهم مسؤولون أمام الله عمن تحت ولايتهم من التلاميذ وغيرهم، وواجب عليهم شرعاً حمايتهم من هذه الأخطار عن مظنات هذه الأعمال»، كما نشر فلينى فهمى باشا بيانا باسم الأقباط المصريين، مستنكراً تلك الحوادث قال فيه: «حرصاً على سلامة تلك الروابط المقدسة لم أجد بداً من كتابة هذه السطور جهراً فيها بأنه إذا كان المسلمون المصريون قد استنكروا أعمال أولئك المبشرين، فالأقباط المصريون أشد استنكاراً لتلك الآمال ولا يقل آسفهم منها عن أسف إخوانهم الأقباط، ولا تنقص رغبة هؤلاء إلى الحكومة فى العمل على منع أسبابها بصورة نهائية حاسمة».
وفى نفس الوقت، نشرت جريدة كرستيان جرافيك «إن المسيحين بإنجلترا سيراقبون مركز الإرساليات فى مصر بعين القلق وانشغال البال»، وكانت نتيجة الحملة الصحفية على الجامعة الأمريكية ونشاطها التبشيرى هبوط المقيدين بكلية الآداب والعلوم فى 1932، 1933 من 388 إلى 266 طالباً.
ويعتقد إدوارد فرمان جوست أن الهدف من الحملة الصحافية على الجامعة الأمريكية هو إحراج حكومة صدقى، واستشهد على ذلك بحديث لمستر مكلانهن MeClenahan عميد كلية الآداب والعلوم ومستر جوردون مريام Merriam Gordon السكرتير الثالث للمفوضية الأمريكية بالقاهرة حيث قالا: «إنه يعتقد أن %25 من الحملات الصحفية ضد الجامعة تهدف إلى تعويق الحكومة، وأن الصحافة الوفدية تأمل فى اتهام الحكومة بعدم مقدرتها على حماية الإسلام، وأكدت هذا الرأى البلاغ فى 31 مايو 1932 حيث ذكرت «منذ ثلاثة شهور، أكد صدقى باشا أمام البرلمان أنه يعد بأنه سوف لا يثار أى هجوم ضد الإسلام من جانب المؤسسات الأجنبية، وأعلن أنه فى حالة أى هجوم أكثر على الإسلام سوف يتدخل من خلال السلطات الحكومية، والآن هناك هجوم.. فماذا ستفعل الحكومة؟!
وهذا الرأى سليم فى مجمله، ولكن نسبة %25 هذه نسبة كبيرة، إذ إن ساعة الصفر للهياج والثورة لأى شعب شرقى- بشكل خاص- هى ساعة المساس بمسألة الأديان والإقلال من شأن دين جماعة، والدليل على ذلك أن العقاد وهو الكاتب الوفدى قد هاجم المبشرين الأمريكيين فى صحيفة البلاغ سنة 1928 أثناء حادثة زويمر، فماذا كان يقصد، هل هو إحراج حكومة النحاس الوفدية أم الدفاع عن الإسلام؟! يتبع.