«قال رئيس حكومة إقليم كتالونيا، كارليس بيغديمونت: إنه لا يخطط لانفصال «صادم» مع إسبانيا، بل يرغب فى تفاهم جديد مع الحكومة المركزية بمدريد فى أعقاب الاستفتاء».
وحذرت مدريد من أنها يمكن أن تعلق الحكم الذاتى الذى يحظى به هذا الإقليم الواقع فى الشمال الشرقى من إسبانيا.
هل تجدون تطابقا بين ما يحدث فى العراق وإسبانيا؟
كثير من المحللين ينظرون للقضية من موقفهم الشخصى دون التوقف الذى تعانى منه الدولة الوطنية فى العالم، وأعتقد أن الرئيس السيسى فقط هو من أدرك الخطر القادم، وفى مقال سابق أوضحنا كيف أن الدول القومية بدأت فى انتهاء عمرها الافتراضى مثال تفكك «الاتحاد السوفيتى ويوغسلافيا ودول شرق أوروبا وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى وأخيرا كتالونيا».
ونذكر أن الأمم المتحدة أصدرت إعلانا عن حقوق الأقليات الأثنية والدينية والثقافية إلخ فى 1992، وأعتقد أننا فى مصر كنا أول من حذر من تلك المشكلة فى 1994 عبر مؤتمر الملل والنحل والأعراق، الذى عقد فى ليماسول، إلا أن النزعات «القومجية» لم تدرك أبعاد القضية الأخطر وتمترست بالإنكار، ولكن بعد أن فجر رئيس الدولة السيسى القضية أمام الجمعية العامة، كان لا بد أن نعيد التحذير، ونعيد الحديث عن كردستان، من خلال الأبعاد الاقتصادية وأثرها على قرار الاستفتاء.
بدأت الأزمة الاقتصادية فى إقليم كردستان العراق منذ الخلاف الحاصل بين حكومة الإقليم والحكومة المركزية فى بغداد برئاسة نورى المالكى فى عام 2014 الذى أدى إلى قطع حصة الإقليم من الموازنة العامة الاتحادية المقدرة بـ%17، علمًا بأن أصل الخلاف يعود حول النفط المستخرج والمسائل المتعلقة بتوزيعه، بينما يشكو الإقليم أن الميزانية الاعتيادية لا يصل منها سوى %10 فقط.
يعتبر اقتصاد الإقليم هشًا ولم يبن على أسس صحيحة وقوية، إذ تميز بإهدار كبير فى صرف الموازنة عبر الوزارات والمؤسسات الحكومية، حيث شكلت النفقات التشغيلية فى الموازنة الحكومية قرابة الـ%75 بينما النفقات الاستثمارية شكلت باقى الموازنة %25، وهذا يظهر حجم الهدر الذى كانت تقوم به الحكومة فى الصرف.
يبلغ عدد الموظفين فى الجهاز الحكومى فى الإقليم مليونا وثلاثمائة ألف موظف من موظفين مدنيين وعسكريين تصرف الحكومة لهم رواتب شهرية، وقد واجه الإقليم مؤخرًا تقليصا فى رواتب موظفى وزارة التربية والتعليم إلى حدود النصف بعد عجز حكومة الإقليم عن تسديد رواتب موظفيها المدنيين والعسكريين «البيشمركة» لأربعة أشهر فى عام 2015.
من جهة أخرى، فإن اقتصاد السوق فى الإقليم فى الفترة من 2003 إلى 2014 طغى عليه المضاربة فى سوق العقارات، وهذا يعد كارثة للاقتصاد على المدى المتوسط والطويل، حيث تؤدى المضاربة فى سوق العقارات إلى أرباح هائلة بدون جهد وبدون خلق فرص عمل، المحلل فى الشؤون الكردية بدر الملا يرى أن البيشمركة «لم يحصلوا على رواتب من بغداد تزيد على 8 أعوام، قام الإقليم بتغطيتها من ميزانيته، إلا أنّ المعركة مع داعش والقتال على خط يزيد على 1050 كم وضع الإقليم فى موقع صعب من ناحية تأمين التمويل».
القشة التى قسمت ظهر حكومة الإقليم هى انخفاض أسعار النفط العالمية إلى دون 30 دولارًا للبرميل، فالنفط يعد المصدر الرئيسى لموازنة الإقليم، حيث ينتج كل يوم ما يقرب من 600 ألف برميل نفط يوميًا تشحن إلى ميناء جيهان التركى لتصديرها، ويُذكر أن الإقليم يبيع النفط بأقل من السعر العالمى بعشرة دولارات بسبب سوء نوعيته ولدفع جزء من القيمة إلى الشركات المستخرجة.
كان الطالبانى، نجل الرئيس العراقى السابق جلال الطالبانى، قد حذر قبل أيام فى تصريحات لرويترز من تسونامى اقتصادى قد يجرف الإقليم، فى حال عدم اتخاذ إجراءات لمواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة.. أعتقد كل ذلك دفع برازانى للاستفتاء من أجل تحريك القضية، لأن طبيعة الأزمة التى تواجه اقتصاد إقليم كردستان العراق تتماهى مع ما يعانيه الاقتصاد العراقى بصورة أشمل، فالاقتصاد العراقى واقتصاد الإقليم الذى يعد جزءًا منه يعتبر اقتصادًا ريعيًا نفطيًا غير إنتاجى، يعتمد على استيراد السلع التى يحتاجها السكان، وهو نموذج اقتصادى مشوه ومتخلف أثبت فشله، بالإضافة إلى أنه نموذج مكشوف للدول الخارجية التى تسعى لاستغلاله وجعله سوقًا استهلاكية لمنتجاتها، من جهة أخرى لا يمكن تصديق ما يقوله أودغان، لأن العلاقة بين حكومة الإقليم والحكومة التركية لها مصالح اقتصادية مشتركة ومصيرية، حيث بلغت إجمالى الصادرات التركية إلى إقليم كردستان 1.4 مليار دولار فى عام 2007 ليحتل الإقليم المرتبة التاسعة عشرة فى قائمة أكبر الأسواق المستوردة من تركيا، وفى عام 2011 أصبحت حكومة الإقليم سادس أكبر سوق للصادرات التركية، حيث بلغت 5.1 مليار دولار، وبحلول عام 2013، قفز الإقليم ليصبح ثالث أكبر سوق للصادرات التركية التى بلغت قيمتها 8 مليار دولار، وعلى سبيل المقارنة، كانت قيمة الصادرات العراقية إلى تركيا، باستثناء النفط والغاز–تشمل أيضاً صادرات «إقليم كردستان»–قليلة، إذ تراوحت بين 87 و153 مليون دولار فى الفترة ما بين عامى 2007 و2014.
فى عام 2009 بلغ عدد الشركات المسجلة فى الإقليم 485 شركة تقريبا وبحلول عام 2013 ارتفع العدد إلى 1500 شركة ويظهر الوجود التركى فى جميع أنحاء كردستان، فالعلامات التجارية منتشرة فى كل أنحاء الإقليم بدءًا بمراكز التسوق إلى مشاريع الإسكان ومتاجر الأثاث والسلع التجارية والاستهلاكية والقطاعات الزراعية والخدمية والمالية والبناء والتعليم وأنظمة الطاقة الكهربائية والرعاية الصحية واستخراج النفط والغاز والاتصالات والسياحة والنقل غيرها.
الأهمية البترولية للإقايم كونه يحوز على نحو 45 مليار برميل من احتياطات النفط الخام، وهو أكبر من احتياطى بعض الدول مثل نيجيريا، كما يقول تقرير لوكالة بلومبرج، ووفقا لبيانات وزارة النفط العراقية أعلنتها فى يونيو الماضى، فإن إنتاج إقليم كردستان الحالى من النفط يبلغ نحو 600 ألف برميل يوميا، بما يمثل %30 من إنتاج العراق الكلى.
لهذا كله، فإن استفتاء كردستان دفع إليه الإقليم لكى يكون «استفتاء تحريك» من أجل تدخل المجتمع الدولى لجر الحكومة المركزية إلى طاولة المفاوضات، وفق مشروعية نتائج الاستفتاء، وتخوفات الأوبك والدول الشريكة اقتصاديا مع الإقليم.