كنت أتوقع أن تنأى منظمة عريقة ومعنية بالثقافة والعلوم والعلم مثل اليونسكو بنفسها عن المؤامرات والضغوط والابتزاز السياسى والمالى الذى تعانى منه غالبية المنظمات الدولية، لكن يبدو أن الوضع صعب خاصة إذا كنا نتحدث عن أموال تدفع من تحت الموائد، وقادرة على تغيير الضمائر، حدث ذلك كله ومازال يحدث فى انتخابات المدير العام الجديد للمنظمة التى تدخل اليوم جولتها الرابعة ومتوقع أن يتم حسمها فى جولة الغد الجمعة.
أنا لا أتحدث من منطلق كونى مصريا أقف خلف مرشحة بلادى السفيرة مسيرة خطاب، لكننى أتحدث من منطلق ما شاهدته ورصدته من داخل أروقة الانتخابات بمقر اليونسكو بالعاصمة الفرنسية باريس، فعلى مدى ثلاثة أيّام كنت أسمع همسا بين الوفود عن أموال أتى بها المرشح القطرى ليوزعها على أعضاء الوفود، مكررا ما فعلته بلاده قبل عدة أعوام فى مبنى الفيفا بسويسرا حينما حسمت شنط الأموال القطرية حق تنظيم كأس العالم لصالح الدوحة، وهى الفضيحة التى تم الكشف عن تفاصيلها لاحقا وأدت إلى اعتقال عدد كبير من قيادات بالفيفا ثبت تورطهم فى الرشاوى القطرية، كنت أسمع هذا الهمس داخل اليونسكو لكننى لك أصدق فى بداية الأمر، فالضغوط السياسية واردة كما حدث فى 2009 مع المرشح المصرى فاروق حسنى الذى تكتلت ضده الدول الأوروبية والولايات المتحدة ومنحت المنصب للبلغارية ايرينا باكوفا فى الجولة الأخيرة بعدما تسيد حسنى كل الجوالات وكان قاب قوسين أو أدنى من المنصب، لم أكن أتوقع أن تتلوث اليونسكو بسلاح المال بعدما فتتها السياسة، لكن ظنى خاب حينما سمعت نتائج تصويت المرحلة الأولى وحصول المرشح القطرى على اعلى الأصوات متغلبا على مرشحين ينتمون لدول ذات تاريخ وحضارة مثل مصر وفرنسا والصين، وهو ينتمى لإمارة يعلم القاضى والدانى أنها وليدة مؤامرات وخيانات داخل أسرة واحدة، وأنها اتخذت من تمويل الأرهاب مسلكا.
تخيلوا ماذا حدث فى اليونسكو.. حدث أن قطر الدولة التى لا تملك من التاريخ سوى جملة واحدة وهى أنها أكبر إمارة داعمة وراعية للإرهاب، يحصل مرشحها لهذا المنصب المهم على أصوات فى الجولات الأولى أعلى من مرشحين ينتمون لدول عريقة وصاحبة تاريخ وحضارة.. مرشح كل رصيد بلاده أنها مولت داعش التى دمرت آثار العراق والسعودية، ورغم ذلك هناك من صوت له ليكون مديرا للمنظمة المعنية بالحفاظ على التراث الحضارى والإنسانى.. اَى تناقض هذا، أنه التناقض الذى صنعه المال الحرام.
لقد سعت مصر من خلال مرشحتها، وكما قلت من قبل، إلى التأكيد للعالم أن الهدف ليس اقتناص منصب هو فى الأساس حق للدول العربية التى لم يحصل أيا من أبنائها عليه حتى الآن، وإنما ضرورة العمل على علاج الخلل الذى أصاب اليونسكو طيلة السنوات الماضية، وضرورة العمل على إيجاد سبل للخروج من حالة التسييس التى تعانى منها المنظمة، ليس فقط فى عملها وإنما حتى فى الانتخابات، وهو أمر يحتاج فعلا لمراجعة سريعة من جانب دول المنظمة، وأعتقد أن مصر بثقلها وحضارتها وإرثها الثقافى قادرة من خلال مرشحتها أن تعيد الطابع الإنسانى والثقافى للمنظمة، وأمام الجميع تحارب مصرية ناجحة فى مجالات مختلفة، ربما أقربها عضوية مصر لمجلس الأمن، التى كانت بمثابة انطلاقة مهمة ومؤثرة لحفظ حقوق العديد من الدول النامية التى كانت مصر خير من تحدث باسم فى مجلس الأمن والعديد من الفعاليات الدولية، وهو ما يؤكد أن مصر لا تبحث عن الاستئثار بمنصب أو مقعد بقدر رغبتها أن تكون خط دفاع قوى عن الحقوق والحريات مع الحفاظ على الطابع الإنسانى والثقافى، وهى موروثات مصرية استدعاها ثورة 30 يونيو وجعلتها فى أولوياتها، وهو ما أعاد لمصر مكانتها القوية سواء على المستوى الدولى أو الاقليمى.
عموما لم تنته الانتخابات بعد، وقد لا يفوز بها مرشح إمارة الإرهاب، خاصة إذا أفاق مندوبو الدول من غفلة المال التى سيطرت على عقولهم، لكن ما حدث فى الجوالات الأولى يُستدعى من دول العالم كله أن تعيد قراءة ما حدث بدقة وعناية، فما حدث فى اليونسكو قد يتكرر فى منظمات أخرى، ولا نستبعد أن نرى إرهابيا سكرتيرا عاما للأمم المتحدة طالما امتلك الأموال التى يشترى بها أصوات ضعاف النفوس والضمائر.
اليونسكو فعليا أصبحت على المحك، فالقضية لا تتعلق بفوز مشيرة خطاب أو خسارتها، وإنما فيما حدث وكشف عن خلل كبير فى المنظمة التى أعتقد أن العديد من الدول الحرة تفكر جديا من الآن فى البحث عن مخرج لها، وقد يكون هذا المخرج هو بديل آخر، نعم فَلَو تخيلنا فرضا أن المرشح القطرى استطاع أن يفوز بالمنصب بأمواله فكيف سيكون حال المنظمة وكيف ستتعامل الدول معها، أنه سؤال فى غاية الخطورة والإجابة عليه ربما تحتاج لنقاش طويل، لكنى على ثقة بأنه إذا حدث ذلك سنرى دولا قد تلجأ إلى تجميد عضويتها فى اليونسكو، لأنه من غير المتصور أن يتعاملون مع منظمة يترأسها شخص موصوم بعار الارهاب وهدم القيم الإنسانية.
اليونسكو فقدت الكثير من بريقها، بل احترامها أيضا بسبب تصرفات خارجة من بعض مندوبى الدول الأعضاء فى المجلس التنفيذى مِمَّن لهم حق التصويت وانتخاب المدير العام، فهؤلاء حينما قرروا بإرادتهم الشخصية بيع أصوات بلدانهم لمن يدفع لهم أكثر، حينما فعلوا ذلك قضوا على الرصيد التاريخى لمنظمة اليونسكو.