شهدت الألفية الجديدة وتحديدًا بعد أحداث سبتمبر 2001 موجة واسعة من استطلاعات الرأى العام العابر للحدود، الذى يجرى فى عشرات الدول عبر قارات العالم الخمس وثقافاتها المختلفة، وبطبيعة الحال فإن هذه الاستطلاعات استندت إلى حقيقة أن العولمة وثورة الاتصالات قد أتاحتا فرصًا أوفر لتشكل رأى عام معولم يمكن قياسه والاهتمام به كلاعب فى صناعة القرار السياسى على المستويين الوطنى والدولى.
اجتهدت معاهد ومراكز بحوث مثل بيوpew وجالوب وغيرها.. فى إجراء هذه الاستطلاعات وفق مناهج وأدوات بحثية حاولت أن تراعى الاختلافات السياسية والثقافية بين الدول التى تجرى فيها تلك الاستطلاعات، لكن أغلب التجديدات المنهجية لم تسلم من انتقادات علميه جادة، بداية من عدم دقة العينات، وطول الفترة الزمنية التى يجرى فيها الاستطلاع، فعلى سبيل المثال أجرت هيئة الإذاعة البريطانية مؤخرًا استطلاعا استمر ثلاثة أشهر، وهى مده كافية لتغيير مناخ الرأى مع ظهور أحداث وتفاعلات جديدة على المستويين الوطنى والدولى، وبالتالى فإن آراء العينات المستخدمة فى الاستطلاع ستتغير بدورها.
ويلاحظ أن أغلب موضوعات استطلاعات الرأى المعولم ارتبطت بصورة الولايات المتحدة والحرب فى العراق وأفغانستان ورؤية المسلمين للحرب على الإرهاب، والموقف من تنظيم القاعدة وداعش وقضايا الهجرة. ولاشك أن هذه الموضوعات تخدم أجندة اهتمامات محددة تحددها الجهات التى تقوم بالتمويل، وهى فى معظمها جهات أمريكية وأوروبية تشارك فيما يعرف بالحرب على الإرهاب.
فى هذا السياق كانت مشاركات الأمم المتحدة ومنظماتها محدود للغاية، كما أن موضوعات الاستطلاعات التى قامت بتمويلها عالجت موضوعات أكثر حيدة كالتنمية البشرية والحفاظ على البيئة وحقوق المرأة. من جانب آخر فان بعض الدول التى يجرى فيها الاستطلاع معروف عن حكوماتها أنها لا تسمح أصلاً بإجراء أى استطلاع للرأى العام، كما يسودها مناخ غير ديمقراطى قد يحول بين أفراد العينة والتعبير الحر عن آرائهم، علاوة على أن بعض الدول تعانى من حروب أهلية وطائفية، ومع ذلك قيل إنها شاركت فى بعض الاستطلاعات رغم عدم توافر الحد الأدنى لتشكيل رأى عام بالمعنى العلمى السليم.
لذلك فإن هناك حالة الشك العلمى المتزايد فى مدى دقة وموضوعية نتائج استطلاعات الرأى العام التى تجرى داخل كل بلد، حيث تتهم استطلاعات الرأى العام بأنها أصبحت صناعة توظف لصالح من يدفع أو يمول تكاليف الاستطلاع، وقد كشف النقاب عن كثير من الاستطلاعات التى وظفت لصالح القوى المسيطرة اجتماعيًا أو استغلت نتائجها لتزييف وعى الجمهور وتبرير سياسات عدوانية، كشن الحرب على العراق.
ولا يشفع لاستطلاعات الرأى العام والمراكز أو الهيئات التى تقوم بها ادعاء العلم والموضوعية واستخدام منهجية بحثية صارمة، إذ أن أغلب تلك المناهج تتعرض لانتقادات واسعة، علاوة على أن استخدامها فى سياق سياسى أو اجتماعى معين قد يسمها بالانحياز وعدم الدقة، من هنا اتهمت آلية استطلاع الرأى العام بأنها قد صممت وروج لها من أجل أن تقيس ما سبق لوسائل الإعلام أن قدمته للجمهور.
وأتصور أن الانتقادات لاستطلاعات الرأى العام المحلية التى قد تأتى بعكس نتائج الانتخابات أو رغبة الناس، دفعت إلى سيادة الاتجاه النسبى فى النظر إلى استطلاعات الرأى العام، فتحول الموقف العام من الإيمان أو التسليم المطلق بنتائجها إلى الشك، بل والنقد الواعى لنتائجها وإجراءاتها المنهجية.
وإذا كنت أعتقد أن استطلاعات الرأى العام المعولم بصورتها الحالية متحيزة وغير علمية فإننى على قناعة تامة بأن هناك رأيا عاما معولما يتشكل فى ظروف معينة، وعبر تفاعلات معقدة حول موضوعات ليست بالضرورة ما تحدده الاستطلاعات الحالية، والتى تمول وتجرى بطرق لا تخلو من التحيز والتوظيف السياسى، من هنا يجدر البحث والتفكير فى وسائل وآليات جديدة تضمن تمويلا أقل تحيزًا وإجراءات منهجيه أكثر دقة ونزاهة. لكن السؤال الذى يطرح نفسه هو: هل تؤثر هذه الاستطلاعات المعولمة فى اتخاذ القرار السياسى؟
ثمة إجابات عديدة ومتضاربة تتراوح بين عدم التأثير، بمعنى أن هذه الاستطلاعات لا تلعب دورًا فى عملية صناعة القرار السياسى، مقابل التأثير النسبى أو التأثير الكبير، من زاوية أن صانع القرار السياسى على المستوين المحلى والدولى يراعى اتجاهات ومواقف الرأى العام، ويحاول أن يتماشى أو يتكيف معها، لكن عملية التكيف هنا قد تتضمن محاولات تنظيم حملات علاقات عامة أو شن حروب دعائية لإعادة توجيه آراء الناس عبر العالم، أى التلاعب عبر وسائل الإعلام باتجاهات الرأى العام، ولعل الجهود المتعثرة لتحسين صورة أمريكا فى العالم توضح ما أقصد.
ومن الثابت أن تأثير استطلاعات الرأى العام فى صناعة القرار السياسى أصبحت أكثر تعقيدًا من المراحل التاريخية السابقة، وذلك فى ضوء معطيات العولمة وثورة الاتصالات والإعلام الجديد، ومن ثم لا تأخذ اتجاهًا خطيًا مباشرًا، بل تؤثر بطرق غير مباشرة وعلى مستويات مختلفة وطنيًا ودوليًا، كما أن بعض هذه التأثيرات قد تكون طويلة الأمد وغير مباشرة، وتختلف بحسب نوع القضية التى تشغل الرأى العام فضلاً عن مدى قوته.