منطق غريب وعجيب يفكر به البعض فى مصر الآن، تشعر معه بنوع من (الاستهبال، والاستعباط، ورمى البلا) وتصدير المشاكل والكوارث التى صنعوه بأيديهم إلى ملعب الحكومة، وكأن لزاما علينا أن نعارض ونلعن الحكومة لمجرد فقط أنها حكومة، فى حين أنه يجب محاكمة هؤلاء بتهم عديدة.
فمنذ أيام، نظم عدد من أهالى الشباب الذين سافروا فى رحلات (هجرة غير شرعية) وقفة احتجاجية أمام مجلس النواب، مطالبين الأعضاء بالتدخل لاستعادة أبنائهم الذين سافروا، وانقطعت أخبارهم منذ خروجهم من منازلهم، فى حين أن الحقيقة المرة تقول (إن الآلاف من هؤلاء الشباب المساكين قد غرقوا بالفعل) ولم يجدوا حتى من يواريهم التراب، نتيجة مغامرة غير محسوبة وافق عليها أهالى يستحقون المحاكمة.
فقد حالفنى الحظ أثناء عهد القذافى، إلى خوض مغامرة على الأراضى الليبية استطعت خلالها جمع كم من المعلومات عن تلك القضية، لم تتوافر للكثيرين، بدأت بشكاوى عديدة حملتها من الأهالى للمسئولين بالسفارة المصرية فى ليبيا، عن فقدان المئات من أبنائهم فى ليبيا منذ سنوات، لدرجة أن البعض اتهم السلطات الليبية فى ذلك الوقت باحتجاز الآلاف من الشباب المصريين فى سجن أسفل منطقه الساحة الخضراء بطرابلس.
إلا أنه اتضح لى أن قنصليتى مصر فى طرابلس وبنى غازى، تتلقيان فى ذلك الوقت مابين 200 و300 شكوى من هذا النوع، ويتم إحالتها إلى السلطات الليبية والتحرك للتحقيق فيها، إلا أن الرد يأتى دائما بعد بحث جدى، إن المذكور دخل البلاد بالفعل بتاريخ كذا، إلا أنه بالبحث اتضح أنه (لا وجود له على الأراضى الليبية).
وللأسف الشديد أن الرد الليبى دائما يكون صحيحا، وأنه لا مصلحة بالفعل للسلطات الليبية فى احتجاز كل هذا العدد من المصريين البسطاء، وأن الحقيقة المرة تؤكد أنهم (غرقوا) بعد أن وقعوا فريسة لعصابات منظمة، أوهمتهم بتسفيرهم إلى إيطاليا وألقت بهم على بعد عدة كيلو مترات من السواحل الإيطالية، وتركتهم يصارعون الموج والظلام، يموت منهم من يموت فلا يجد حتى من يواريه التراب، بعد أن تتحلل جثته ويصبح وليمة للأسماك، أو يكون القدر رحيما به بعد الموت فتلقى الأمواج بجثته إلى أى من السواحل، فيتم دفنه غريبا فى مدافن الصدقة، أو ينجو (وهذا نادر) ويتم القبض بمعرفة الشرطة الإيطالية لتودعه السجن، إلى أن يتم ترحيلة إلى ليبيا أو مصر مرة أخرى.
والذى لا يعلمه البعض، أن تلك المراكب غالبا ما تتعطل وسط البحر ويكون مصير الجميع الموت، أو تقوم السلطات بالقبض على كل من فيها، فيدعون أنهم مهاجرون من أى من الدول المنكوبة، وأنهم لا يحملون وثائق سفر، فتحتجزهم السلطات الإيطالية لدى الصليب الأحمر الإيطالى، إلى أن يتم التحقق من هويتهم ويتم ترحيلهم، أو يظل الشاب محتجزا إلى أن يتم إطلاق سراحه بعد شهور أو سنوات من العذاب، بحجة عدم معرفه جنسيته.
ولعل الغريب فى الأمر، أن الأهالى الذين تظاهروا أمام البرلمان، يعلمون جيدا ان هناك عصابات قامت بالاتفاق مع هؤلاء الشباب داخل قراهم فى مصر، وان كل من فى ليبيا يعلمون ان هؤلاء السماسرة الذين يحملون الجنسية الليبية والمصرية والسودانية والتونسية، ينتشرون على مقاهى العاصمة الليبية طرابلس، و3 مقاهى معروفه فى مدينة (زوارا) ومقهيين بمدينة (سبراطة) ومقهى المحطة بمدينة (مصراتة) ويقومون بالاتفاق مع الشباب على السفر فى مقابل مبالغ تتراوح بين 1000 و3000 دولار، وتسليمهم إلى عصابات تقوم بتجميعهم فى أحواش لعدة أيام، وأخذ جوازاتهم وحرقها، والإبحار بهم فى مراكب صغيرة أو لنشات أو مراكب صيد متهالكة من مناطق مهجورة، يتولى بحارة سودانيين وتوانسة قيادتها إلى ما قبل السواحل الإيطالية بعده كيلو مترات، ويطلبون من الجميع القفز والسباحة فى الظلام حتى بلوغ الشاطئ، فيموت منهم من يموت وينجو من ينجو.
وقبل سقوط ليبيا، كانت تلك العصابات تختار ايام المواسم والاحتفالات للإقلاع بتلك الرحلات من اماكن مهجورة على سواحل (زوارا وجرناته ومصراتة والخمس، ونهاية ساحل سرت) اما الان وفى غيبة الدوله فالسواحل مفتوحة والرحلات تتم من اى مكان وفى كل وقت.
ولعل الغريب فى الأمر، ان اعداد كبيرة من الشباب المصرى مازالوا يسافرون لخوض تلك المغامرة حتى اليوم، لدرجة ان أغلبهم يخوضون مغامرة أكثر خطورة، والدخول إلى الاراضى الليبية عبر عصابات متخصصة فى تهريب البشر، من السلوم أو السودان أو تونس، هربا من الحصول على تأشيرة دخول إلى الاراضى الليبية، لدرجة ان الشهور الاخيرة شهدت تكدس كبير للشباب المصرى فى المدن السودانية من اجل الدخول إلى ليبيا دون تأشيرة، خاصة بعد أن رفع سماسرة السفر فى مصر تكلفه دعوات الدخول الرسميه لليبيا إلى ما يقرب من 15 ألف جنيه.
الأمر بالفعل خطير، والإحصائيات المسجلة فى السفارة المصرية فى طرابلس قبل سقوط النظام فى ليبيا، تؤكد أن ما بين 200 و300 شاب يفقدون يوميا ويتم الإبلاغ عن فقدانهم هناك، أما الآن فالأعداد كبيرة، فى غيبه من الجميع، فى الوقت الذى لا أعتقد أن الحكومة تمتلك ما تستطيع به أن تمنع هؤلاء الشباب من السفر، ولا أجد فى إلقاء البعض بالمسئولية عليها لعدم توفير فرص عمل ما يبرر موافقة أولياء أمورهم على الإلقاء بأبنائهم إلى التهلكة، والعودة فى وقت تستحيل فيه العودة، لمطالبه البرلمان والحكومة بإعادة الأموات.