القصور فى التغطية الإعلامية لحادث الواحات شغلنا عن الجوانب الأمنية والاستراتيجية للحادث، حيث ركز النقاش العام على مستويات المهنية وأخلاقيات الإعلام بشأن ما قدمه الإعلام المصرى والأجنبى من حقائق وأرقام، خاصة أعداد الشهداء والجرحى، فقد أعلنت وزارة الداخلية عن سقوط 16 شهيدًا، بينما أذاع عدد من وكالات الأنباء الغربية والـ«بى بى سى» - قبل صدور بيان الداخلية - أرقامًا غير دقيقة تراوحت بين 53 و60 شهيدًا! مما كشف عن خطأ إعلامى وأخلاقى جسيم، ما يزال للأسف الشديد يرد فى تقاريرها الإخبارية، من دون شعور بالمسؤولية أو محاولة إصلاحه والاعتذار عنه.
أخطأت هذه الوكالات والـ«بى بى سى» ونشرت أرقامًا مزيفة وغير صحيحة بالمرة، وبينما أعلنت وزارة الداخلية أسماء الشهداء، ونقلت وسائل الإعلام تغطيات لجنازات الشهداء، لم ولن تنشر الوكالات الغربية أو محطة الـ«بى بى سى» أسماء الخمسين أو الستين شهيدًا التى ادعت وما تزال أنهم سقطوا فى عملية الواحات، لأن هذه الأرقام هى محض خيال وخطأ مهنى، ينبغى الاعتذار عنه بسرعة ودون مكابرة أو مبررات لا تصمد أمام أى نقاش مهنى جاد.
كان الأفضل لوكالات الأنباء الغربية والـ«بى بى سى» أن تعتذر، احترامًا لتاريخها وسمعتها وللجمهور المتابع لها، ولاشك أن الاعتراف بالأخطاء هو إحدى حقائق العصر، ومصدر تجديد للثقة والاحترام، ما يعنى أنه لا يقلل إطلاقًا من سمعة ومكانة الوسيلة الإعلامية فى عصر تدفق الأخبار والمعلومات والسوشيال ميديا وسرعة البث، وبالتالى زيادة احتمالات الوقوع فى الأخطاء.. بكلمات أخرى الاعتذار فضيلة وطوق نجاة، أما الإصرار على الخطأ فهو بداية الطريق إلى الانتحار، وزوال ثقة الجمهور فى الوسيلة الإعلامية، وكنت قد ناقشت هنا قبل أسابيع قليلة إشكاليات الأخبار الكاذبة أو المزيفة «Fake News» وتراجع الثقة فى وسائل الإعلام التقليدية الجديدة فى جميع أنحاء العالم.
وأخطأت معظم وسائل الإعلام المصرية العامة والخاصة عندما صمتت طويلًا، ولم تشر من قريب أو بعيد لما يجرى، انتظارًا لبيان وزارة الداخلية الذى تأخر لأكثر من خمس ساعات.. كانت وسائل التواصل الاجتماعى والميديا الغربية والعربية تنقل الحقائق والأكاذيب دون أى مسؤولية مهنية أو أخلاقية، وأخطأت بعض قنوات التليفزيون الخاص عندما نقلت ما يرد لها من أخبار أو أكاذيب، إضافة إلى استضافة عدد من أدعياء التحليل الأمنى والاستراتيجى، ممن انقطعت صلتهم ومعرفتهم بالواقع منذ سنوات طويلة، ومع ذلك انطلقوا فى تحليل معلومات وأخبار كاذبة وبناء سيناريوهات تضلل الرأى العام، وتتلاعب بمشاعره ومخاوفه وآماله.
أما المصيبة الأكبر فكانت فى نشر إحدى القنوات تسجيلًا صوتيًا مزيفًا عن العملية، وادعاء مذيع مشهور أن هناك خيانة ما تستدعى التحقيق والمساءلة!.. والحقيقية أن هذه الأخطاء والتجاوزات المهنية كانت أكثر ضررًا من إذاعة وكالة أو قناة أجنبية لخبر كاذب، لأنها أذيعت من قنوات مصرية، وجاءت من خلال مقدمى برامج معروفين بتأييدهم للحكومة والرئيس السيسى، لكن يبدو أن وعيهم السياسى يغيب أو يُغيّب تحت بريق السبق الإعلامى، ومحاولة تقديم شىء غريب أو نادر يلفت انتباه الجمهور والميديا المنافسة.
لذلك أتمنى سرعة مراجعة أداء الإعلام المصرى عند مواجهة الأزمات الإرهابية، وإلزام كل القنوات ووسائل الإعلام بوضع خطط لكيفية تغطية الأزمات والكوارث، والتدريب عليها، لأننى للأسف أجد تكرارًا غريبًا لنفس الأخطاء الإعلامية فى تغطية العمليات الإرهابية، ما يثير الأسى والحزن والخوف على الوطن من مغامرات إعلام متواضع مهنيًا وغير مسؤول وطنيًا وأخلاقيًا، وذلك رغم ضخامة الاستثمارات والأموال التى ضُخت فى شرايينه خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة.
فى كل مرة يضربنا الإرهاب الأسود يقع الإعلام المصرى فى نفس الأخطاء.. أخطاء التسرع وإذاعة بيانات وأرقام غير دقيقة، وبث صور وأفلام غير مطلوبة، واستضافة أدعياء التحليل الأمنى والاستراتيجى، وإشاعة المخاوف لدى الرأى العام، والفشل فى بناء وعى وطنى بكيفية مواجهة الإرهاب، ومع كل هذه الأخطاء يسارع الجميع بتسويد الشاشات وإعلان حداد شكلى لا معنى له، لأنه فى ذروة الحداد والإشادة بالشهداء تبث القنوات نفسها إعلانات استهلاكية خليعة لا تحترم مشاعر الحزن والألم الجمعى للمصريين.
أتمنى أيضًا أن تراجع وزارة الداخلية أداءها الإعلامى، فمن غير المعقول أن تتأخر بيانات الوزارة عن الحوادث أو الاشتباكات مع العناصر الإرهابية لعدة ساعات، فالسرعة والشفافية هما جناحا الفوز فى معركة الإعلام، التى أصبحت جزءًا أساسيًا فى معركتنا ضد الإرهاب الأسود، كذلك من الضرورى عقد مؤتمر صحفى بعد أى عملية كبيرة ضد الإرهابيين، لتقديم إجابات عن بعض الأسئلة الحائرة التى يطرحها الإعلام والرأى العام، أرجو من وزارة الداخلية أن تسارع بتغيير نهجها فى التعامل الإعلامى مع الأزمات الأمنية، وأن تستفيد من التجربة الناجحة للجيش فى إدارته الإعلامية، لاسيما أن وزارة الداخلية لديها إمكانيات مادية وكفاءات بشرية قادرة على تقديم خطاب إعلامى سريع ومتوازن وموثوق به.. فى هذا الإطار لابد من تفعيل دور المتحدث الرسمى، وأنا أعرف أن هناك عددًا من الضباط الشبان الذين تدربوا للقيام بهذا الدور بكفاءة ومهنية، فمتى نرى وجوههم على الشاشات؟