بينما نحن نتعارك على تاريخنا، ونخترع المشاجرات التافهة، ونتحدث عن مناهج التاريخ فى المدارس والتى تخلو من أى منطق، هناك معركة من نوع آخر تدور على ذاكرة الأجيال القادمة، ولا تخلو من عمليات تلاعب وتزييف، وبالرغم من أهمية الكتاب ومشروعات مثل القراءة للجميع، هناك مجال آخر نكاد نغيب عنه تماما، ويتعلق بالأدوات العصرية والاتصالات، ونقصد به الأفلام الوثائقية، وهو الشكل الأكثر ملاءمة للعصر، والأسهل والأكثر تأثيرا فى بناء الوعى.
هذا المجال «الوثائقيات» متروك تماما ولا أحد عندنا ينتبه له، ويكاد يغيب عن الفضائيات المصرية، فلا يوجد لدينا توثيق أو إنتاج من الأفلام الوثائقية عن الأحداث والأشخاص السياسية والتاريخية، بينما هناك قنوات عربية وأجنبية تقدم هذا المنتج منذ سنوات، بشكل احترافى، ومن المفارقات أن هناك مصريين يعملون فى مثل هذه الوثائقيات.
يكفى أن نعرف أن محطات بريطانية أو أمريكية تنتج آلاف الأفلام الوثائقية عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الباردة، وهى أفلام بالرغم من احترافيتها تنتج بوجهات نظر.. والتاريخ يكتبه المنتصرون، لكن بعض المؤسسات الأمريكية لم تكتف فى وثائقيات الحرب بتسجيل انتصار الحلفاء، لكن بمنح الجانب الأمريكى الدور الأكبر والأوسع، والتقليل حتى من الدور السوفيتى، لأن هذه الوثائقيات أنتجت فى وقت الحرب الباردة، والاتحاد السوفيتى حقق النصر الحاسم، وقدم 30 مليون قتيل، لكن تم تجاهل الدور السوفيتى، لصالح دور أمريكى معروف أنه بدأ متأخرا، فضلا عن أن استخدام القنبلة النووية كان تهديدا للسوفييت بعد هزيمة النازى واستسلام ألمانيا، وهناك وثائقيات اتهمت ستالين بقتل 30 مليون سوفيتى فى الحرب العالمية الثانية، بينما هم ماتوا دفاعا عن الحلفاء وفى مواجهة النازى.
ونفس الأمر مع الحرب الباردة التى سجلتها أمريكا واتهمت السوفييت بالرغبة «الإمبراطورية» بينما كان الأمريكان مثل السوفييت وكلاهما ارتكب مجازر وتدخلات.
وهنا لم يتدخل الأمريكان أو منتجو الأفلام الوثائقية بالتزييف المباشر لكنهم بعمليات حذف وإضافة، وإخفاء وإظهار وتجاهل قدموا رؤيتهم للأحداث بما يوسع دورهم ويقدمهم على أنهم كانوا حماة العالم.
وهو نفس ما نشاهده فى مئات الأفلام الوثائقية التى أنتجتها محطات عربية وخاصة «الجزيرة» عن زعماء مصر وسياساتها، وهو جهد لا يمكن إنكاره، لكن العين المحترفة، لا يمكن أن تخطئ وجود محاولة للتقليل من شأن الانتصارت والمبالغة فى الهزائم، وتبنى خطاب الاستقطاب، آخرها فيلم وثائقى من جزأين عن الرئيس السادات فى أوراق المخابرات الأمريكية، يبدو هدفها تصوير الرئيس الأسبق أنه كان عميلا، مع حذف أى ميزة له، وحتى من يختلف مع السادات يندهش من حجم التقليل والتسخيف والتلاعب فى الوقائع وابتسار الشهادات، ونفس الأمر مع أفلام عن عبدالناصر.
نحن أمام وثائقيات تحذف وتضيف بشكل يقدم عملا موجها، هدفه تسخيف تاريخ مصر، وتقديم كل ما هو سلبى، ويعتمد صناع هذه الأفلام على وجهات النظر التى تخدم الهدف، وتقلل من الوجهات الأخرى، وهى لعبة معروفة لا يدركها غير المتخصص، مثل أن يعتمد على «خريف الغضب» فى الحديث عن السادات، وعلى خصوم عبدالناصر.
وقبل أن نلوم المتلاعبين على ما يقدمونه، يفترض أن نلوم أنفسنا، وننتبه إلى أن التاريخ لم يعد كتبا فقط، ولكن وثائقيات، ونحن فى هذا المجال غائبون وتائهون نتفرغ لكل ما هو تافه من المعارك.