القراءة بين القديم والحديث

مع تطور العصر ووسائله ومخترعاته تتطور حياة الناس ويسهل عليهم كثير مما كان يكلفهم الجهد والوقت والمال فى مراحل زمنية سابقة، ويدرك جيلى، على سبيل المثال، كم كنا نعانى أيام اغترابنا للدراسة من أجل التواصل مع الأهل لمعرفة أحوالهم والاطمئنان عليهم وطمأنتهم علينا، فوسيلة التواصل حينئذ تكاد تنحصر فى خطابات بريدية قد لا تصل أصلا، وإن وصلت خلال أسبوع أو أسبوعين مثلًا كان ذلك يعد إنجازًا عظيمًا، والأعظم منه أن يصلنا الرد فى خلال تلك المدة، مما يعنى انقضاء شهر كامل من وقت إرسال خطابنا الأول إلى تسلم رد الأهل عليه. أما مَن كان ينتمى إلى قرية عرفت خطوط الهاتف الأرضى موقعها على خريطة مصرنا الحبيبة، فهو سعيد الحظ إذا ما تمكن من سماع صوت أبيه أو أمه أو أحد إخوته من خلال هاتف إحدى الأسر الموسرة فى القرية التى ينتمى إليها أو فى الشارع الذى يسكن فيه، وإن كان يلزمه تفريغ نفسه ساعات طوالًا ليتمكن من ذلك، وربما انقطع الخط وهو ما زال ينتظر الرد، ولا أشك فى عجب وانبهار وربما تندر مَن عاصر تلك المرحلة وهم يستخدمون اليوم أجهزة الاتصالات الذكية، فضلًا عن أن أطفالهم فى المدارس يحملون عدة شرائح مع جهاز أو أكثر فى حقائبهم، ناهيك عن التواصل عبر الشبكة العنكبوتية صوتًا وصورة! وأذكر ويذكر جيلى أيضًا كم عانينا أيام دراستنا العليا وإعداد رسائلنا العلمية من أجل الحصول على كتاب يتعلق بموضوع بحثنا، وكم عانينا للوقوف على عبارات مبتورة وردت فى بعض المخطوطات ومعرفة قائلها، وأخرى معلومة القائل، لكنها مجهولة المصدر مخطوطًا أو مطبوعًا، وكم عانينا من السهر والتردد على كاتبى أبحاثنا على الآلات الكاتبة دون الحصول على منتج يرضينا وتقر به أعيننا! لقد تطورت الوسائل التكنولوجية اليوم بما أدى إلى سهولة وسرعة التواصل مع الآخرين والوصول إلى المعلومة فى بضع ثوانٍ، بعد أن كان ذلك يستغرق أيامًا وربما أسابيع قبل الوصول إلى شىء؛ فقد كنا نعانى كثيرًا من أجل العثور على كتاب أو معلومة فى ثنايا صفحاته لكن متعة الوصول إلى بغيتنا وقتئذ لا يمكن وصفها، فهى تدرك ولا توصف، وكنا فى طريق بحثنا عن كتابٍ ما تقع أعيننا على كثير من كتب المؤلف الذى نبحث عن كتابه، وعلى كتب أخرى لعلماء آخرين فى ذات التخصص والموضوع، وكانت أعيننا خلال بحثنا فى كتابٍ ما عن بغيتنا تقع على ما يستقر فى أذهاننا من العلم الذى لم نكن نعرف عنه شيئًا، وهذه المعارف المستفادة خلال البحث مما لم يكن مقصودًا لذاته كانت تزيد ثراءنا الفكرى والمعرفى، إضافة إلى عثورنا على بغيتنا التى كنا نبحث عنها. ولا شك أن هناك تيسيرًا كبيرًا على الناس بصفة عامة باحثين وغيرهم من خلال تطور الوسائل التكنولوجية وأدوات البحث؛ فمنذ دخول أجهزة الحاسب الآلى اليوم مثلًا ميدان كتابة البحوث العلمية وغيرها شعرنا بفارق شاسع بين منتج الحاسوب ومنتج الآلة الكاتبة سرعةً ودقة، ولا تخفى أهمية تحميل مكتبات كاملة لا تتسع لها بيوتنا على قرص مدمج (أسطوانة CD) أو فلاشة (USB) يحملها الباحث فى جيبه، وسهولة الوصول إلى ما لا حصر له من الكتب والبحوث العلمية والمعلومات العامة من خلال الشبكة العنكبوتية، وقد أدى هذا التطور الهائل الذى نشهده اليوم فى مجال تكنولوجيا المعلومات إلى عثور الباحث على بغيته من معرفة قائل العبارة التى يبحث عن أصلها مثلًا، ومعرفة موضعها فى الكتاب فى ثوانٍ معدودة من خلال محركات البحث على الشبكة العنكبوتية دون أن يتكلف الباحث عناء شراء كتب أو قضاء وقت طويل فى المكتبات. وعلى الرغم من إيجابيات هذا التطور التى ذكرنا بعضًا منها آنفًا، فإن هذه الوسائل التقنية والمعرفية الحديثة ترتب عليه- نتيجة سوء الاستغلال- كثير من الأضرار الصحية والمشكلات المعرفية والسلبيات الاجتماعية والفكرية، ولعلنا نتناول ذلك بشىء من التفصيل فى مقالات لاحقة. أما على المستوى العلمى والإثراء المعرفى، فقد قضى هذا التطور على متعة القراءة الورقية وتصفح الكتاب المطبوع، وحرم الباحثين والمطالعين من الثقافة غير المقصودة التى كانت تُحصَّل فى طريق الوصول إلى بغيتهم المستهدفة، فمحركات البحث الآن تنقل الباحث فيها إلى العبارة التى يبحث عنها مباشرة، وهنا يكتفى الباحث بمعرفة عنوان الكتاب واسم مؤلفه دون استطلاع للكتاب ومعرفة أبوابه وفصوله، ودون أن تقع عينه على كتب أخرى فى الموضوع لمؤلفين آخرين أو للمؤلف نفسه، وهناك أهداف عظيمة يفقدها الباحث فى ظل هذا التطور وهى تعلم الصبر والمثابرة فى تحصيل العلم، وزيادة الثراء المعرفى والثقافى من خلال تحصيل معلومات وفيرة فى طريق البحث عن المعلومة المستهدفة، فضلًا عن متعة العثور على المبتغى التى كنا نتذوقها بعد المعاناة الطويلة فى سبيل الحصول على المعلومة، ولا يمكن تجاهل أخطاء التحريف والتصحيف وغيرها من الأخطاء التى يقع فيها مَن رفعوا هذه المؤلفات على الشبكة العنكبوتية سهوًا أو عمدًا، ما لم يكن رفعها بطريقة التصوير التى لا احتمال فيها لأخطاء إلا الأخطاء الموجودة بالكتاب أصلًا. ولست من دعاة عدم استخدام الوسائل الحديثة والاستفادة من التكنولوجيا فى المجالات كافة، فأنا أحد المستخدمين لها والمنتفعين بها، ولكن ما ينبغى قوله وفعله هو عدم الاكتفاء بها والارتكان كليًّا عليها فى البحث العلمى أو الإثراء الثقافى والمعرفى، بديلًا عن الكتب الورقية التى تراكم عليها التراب فى المكتبات العامة والخاصة، وغابت كنوزها الدفينة فى بطونها عن العقول التى اكتفت بقشور معرفية لغرض بحثى أو تثقيف سطحى على حساب حرمان العقل من التبحر العلمى والتعمق الفكرى من خلال الغوص فى بطون الكتب الذى ما زال مشايخنا يتمتعون بها ويحرصون عليها بفضل عدم افتتانهم بالوسائل التكنولوجية الحديثة فى البحث العلمى، بل عدم استخدامهم لها فى حياتهم العامة أصلًا. ونحن من جانبنا نشجع استخدام تكنولوجيا العصر لاختصار وقت الوصول إلى الهدف البحثى المنشود، وفى الوقت نفسه نشجع وندعم كل المبادرات التى تهدف إلى تشجيع القراءة والإثراء المعرفى والثقافى العميق بين شباب الأمة، فنحن أمة (اقرأ)، ولا بد من تضافر جهود الأفراد والمؤسسات المعنية لاستعادة هذه الصفة التى تكاد تختفى فى خضم أعباء الحياة وتسارع أحداثها وتشابك تأثيراتها، فلن يكون هناك تقدم ونهضة إلا بثورة علمية ومعرفية حقيقية يكون عمادها القراءة العميقة فى المجالات كافة.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;