لا أحد يستطيع مهما كان متفائلاً أن ينكر أن الحياة فى مصر تحمل كثيراً من الهموم والصعاب، وكما أكبر من البيروقراطية الخانقة والتى فشل حتى الآن حاكم بعد الآخر فى أن يخلصنا منها، وفى خضم تلك الصعوبات علينا أن نبحث عن خيط أمل وإن وجدناه نتمسك به وننشره ليكون لنا عوناً على يوم مر وأملاً فى يوم حلو .
وأما خيط الأمل فقد منحته لى صديقة طبيبة من خلال تجربتها مع ابنة حارس عقار فقير لم يتعد عمرها العامين، وقد وُلدت بعيب خلقى فى الأذن حرمها من نعمة السمع، ولأن والدها كما ذكرت رجل فقير لا يملك أن يبحث لها عن علاج فى مستشفى خاص أو طبيب صاحب اسم لامع فلم يكن أمامه من أمل إلا أن يتجه للتأمين الصحى رغم ثقته أن دروبه صعبة والبهدلة فيه أكثر كثيراً من الراحة كما نعرف جميعا، ولكنها محاولة على كل حال من أب يحلم بعلاج ابنته وطلب حارس العقار من الطبيبة أن تصحبه كنوع من الأمان أو لكى تكون له عوناً فى دروب البيروقراطية العتيدة .
وبالفعل اصطحبت الطبيبة الرجل وابنته ولكنها لم تكشف عن هويتها كطبيبة وتعاملت وكأنها أم للطفلة الصغيرة فكانت شبه متنكرة، وكانت على يقين أنها ستمر بأسوأ تجربة وبيوم مر ستنقل تفاصيله عبر وسائل التواصل وتشكو فيه من قسوة مصر على أبنائها وخاصة الفقراء، ولكن ما حدث كان خارج توقعها فقد استقبل أطباء التأمين الصحى الطفلة بود واهتمام وكانت كل بياناتها مسجلة منذ الولادة بما فيها التطعيمات ضد الأمراض التى حصلت عليها الصغيرة، وحددوا للأب موعد لتركيب قوقعة فى الأذن وهى عملية تتكلف عدة آلاف من الجنيهات ومن شأنها أن تعالج عيب السمع لدى الطفلة الصغيرة..... ذهبت الطبيبة وهى على يقين من أن يومها سيكون مر مرار العلقم ولكن التجربة منحتها يوم حلو حلاوة السكر .
أما الحكاية الثانية فأبطالها ليسوا فقراء ولا هم من المهمشين ولكنهم أساتذة لأجيال، فقد كتب الكاتب الكبير وأستاذنا لويس جريس على موقع التواصل الاجتماعى فيس بوك تلك الرسالة وأنقلها بنصها " أستاذى الذى مازال يعلمنى، وديع فلسطين.. بلغ الخامسة والتسعين من عمره المديد فى أول أكتوبر .. وكان يتقاضى معاشاً من الحكومة وفوجئ بوقف صرف المعاش بحجة أن الذى يتعدى التسعين من عمره يجب أن يثبت أنه مازال على قيد الحياة، والإثبات الوحيد هو أن يذهب لإدارة معاشات الحكومة ويقدم لهم البطاقة الشخصية بنفسه ويقول أنه مازال حيا يُرزق، وعندما ذهب كانت فى الطابق الثالث ولا يوجد مصعد فذهبت السيدة وردة التى كانت ترافقه إلى موظف المعاشات وقالت له أن الأستاذ وديع فلسطين موجود تحت فى الطابق الأرضى ولا يستطيع الصعود على السلم ولكنه أصر على ضرورة صعوده ووقوفه أمام الموظف، وبجهد جهيد ارتقى درجات السلم لموظف المعاشات الذى لم يقدم له كرسيا ليستريح عليه ونظر إليه من تحت لفوق وقال له بجفاء " اتفضل يا سيدى سوف نرسل لك شيك المعاش ..... وحتى كتابة هذه السطور لم يصل الشيك.... هكذا نعامل شيوخنا الذين ربونا وعلمونا الكثير....لويس جريس".
تلك حكاية يوم مر مرار العلقم، فوديع فلسطين قد لا يكون اسم مشهور تستضيفه برامج الليل لتنهل من علمه وثقافته ولمن لا يعرف فهو شخصية أدبية وفكرية لها قيمة على المستوى العربى والدولى، ألف وترجم فلسطين ما قد يجاوز عدده أربعين كتابا فى الأدب والاقتصاد والسياسة وعلوم الصحافة التى قام بتدريسها فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
ولعل أهم كتبه الأدبية الكتاب الصادر عام ٢٠٠٣ والمعنون "وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره، وهو فى جزئين، يسجل فيهما علاقاته بنحو مئة من الأعلام فى مصر والبلاد العربية والمهاجر وديارات المستشرقين . وقد ذُكر بأنه أول من تنبأ بأن نجيب محفوظ سوف يصبح ذا شهرة عالمية . وبالفعل فقد حاز على جائزة نوبل للأدب عام ١٩٨٨.
كما شارك فى إخراج عدد من الموسوعات منها "الموسوعة العربية الميسرة"، و"موسوعة الأقباط" باللغة الإنجليزية الصادرة فى ثمان أجزاء، و"موسوعة أعلام مصر والعالم"، و"موسوعة من تراث القبط.
وإلى جانب مئات المقالات التى كتبها والتى نشرت فى مختلف أنحاء العالم العربى، شغل وديع فلسطين منصب مدير مكتب شركة الزيت العربية الأمريكية ( أرامكو) فى القاهرة، كما أشرف على نشر مجلة "قافلة الزيت" التى كانت تصدرها الشركة إلى جانب مجلة "أرامكو وورلد ماجازين" الشهيرة والمتخصصة فى البلدان العربية والإسلامية وحضاراتها، والتى تعتبر مثيلة لمجلة "ناشيونال جيوجرافيك" ذات الشهرة العالمية .
ولكن موظفى المعاشات لا يعرفون قيمة البشر والأهم أنهم لا يعرفون الرحمة بمن يتعاملون معهم بغض النظر عن قيمة أو قامة، فالأمم تُقاس حضارتها وتحضرها بمعيار معاملة البشر خاصة مع الضعفاء وهل هناك أضعف من طفل قليل الحيلة أو رجل بلغ من العمر أرذله !
ومر اليوم المر ليأتى يوم حلو، فقد قرأت وزيرة التضامن المجتهدة ما كتب أستاذنا لويس جريس وبعثت بمن يعتذر للكاتب الكبير وصرحت بأنها ستجازى المسئول عما حدث مع وديع فلسطين .
وهكذا هى الحياة فى مصر ما بين الحلو والمر وكم أتمنى كغيرى أن يزداد حلونا ونفقد مرنا .